إمبراطورية الفساد في لبنان تمتد إلى كل القطاعات: غش يطال غذاء الإنسان وألبان وأجبان مزيّفة ولحوم مستوردة تُباع كطازجة!
يظهر ملف الغذاء في لبنان حجم انتشار الغش الذي أصبح يسود هذا القطاع الحساس يوماً بعد يوم، إذ لم يعد الأمر مقتصرا على حالات فردية من التلاعب، بل تحوّل إلى نهج متبع يتفاقم منذ أربع سنوات بسبب الإهمال والرقابة الضعيفة. وقد تصاعدت في العام الماضي فضيحة الغش في منتجات الألبان والأجبان، حيث تبيّن أن العديد منها يحتوي على مكونات غير طبيعية وضارة، مثل النشاء والزيوت النباتية المهدرجة والجفصين، وتُقدّم للمستهلكين على أنها منتجات «بلدية» صافية وذات مصدر حيواني، بينما في واقعها لا تمتّ للطبيعة بصلة. هذه المنتجات المغشوشة لا تشكّل خطراً صحياً فحسب، بل تثير تساؤلات جوهرية حول المعايير والضوابط في تصنيع وتسويق المواد الغذائية، ومدى الحماية التي ينبغي أن توفرها الأجهزة الرقابية.
لم يعد هناك بلدي ولا من يحزنون!
بالإضافة الى ذلك، يبدو أن الغش والفساد في لبنان قد أصبحا جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، متغلغلين في كل قطاع حيوي، وفي أدق التفاصيل التي تمسّ قوت الناس واحتياجاتهم الأساسية.
من قطاع الغذاء إلى المحروقات، مروراً بالمياه وحتى الدواء، يتفشى الفساد ويُحبط أي محاولات لضبطه أو كبحه، مما يهدّد صحة وسلامة المواطن اللبناني، وسط غياب شبه تام عن الرقابة الفعّالة وتراخٍ في فرض العقوبات الرادعة.
وخلال جولة قامت بها «اللواء» على مناطق متعددة في لبنان، من بينها البقاع، ومنطقتي برج حمود والنبعة اللتين تضمان اكتظاظا سكانياً كبيراً ووجوداً ملحوظاً للنازحين، برزت ممارسات غش وتلاعب في أسواق المواد الغذائية.
وقد تبيّن أن عمليات بيع الألبان والأجبان تتم بطرق عشوائية دون أدنى التزام بالشروط الصحية، حيث تُسوق المنتجات الأساسية مثل الألبان والأجبان بشكل مكشوف مما يعرّضها للهواء، ويسهل انتشار البكتيريا والملوثات فيها، مفاقماً المخاطر على صحة المستهلكين.
وفي هذا السياق، عبّر عدد من المواطنين عن استيائهم من الوضع الراهن. تشتكي مريم، وهي أم لأربعة أطفال لـ «اللواء» قائلة: «لم أعد أشعر بالأمان عند شراء الألبان والأجبان وحتى اللحوم، بما في ذلك الحبوب «المسوّسة». كل يوم أسمع عن حالات تسمم ولا أدري كيف أضمن سلامة أولادي».
ويضيف أحمد، أحد التجار المحليين: «ألاحظ كيف أن بعض البائعين لا يهتمون بالنظافة، إذ يبيعون الألبان في ظروف غير صحية، وهذا غير مقبول، وعلى جمعية حماية المستهلك التدخّل من أجل الحفاظ على السلامة العامة».
أما سارة، التي تعيش في منطقة النبعة، فتقول: «كلما ذهبت إلى الأسواق، أشعر بالاشمئزاز، لأنها أصبحت تعجّ بالغش، وحتى من يُفترض بهم حماية المستهلك لا يقومون بواجبهم، وكل ما نحتاجه في هذه الأيام الصعبة رقابة مشدّدة».
ويعرب طوني، عن قلقه قائلاً: «أحياناً أشتري الأجبان من مكان معيّن، ثم أكتشف أن تاريخ صلاحيتها قريب من الانتهاء. ليس لديّ خيار آخر، فالأسعار مرتفعة جداً ولا أستطيع المخاطرة بصحة عائلتي».
وبدورنا، ومن منبر «اللواء»، نؤكد ان هذه الشهادات يجب أن تحرّك الجهات المعنية بطريقة جادّة وفعّالة للحد من هذه الأفعال غير القانونية، وإعادة بناء ثقة المواطن في المنتجات المتاحة له، حتى لا يظل فريسة للغش والفساد الذي يهدّد حياته وصحته.
ما في «فريش».. مجلّد ونصّ!
الى جانب كل ما تقدم، تمتد فصول الغش إلى قطاع اللحوم، حيث تدخل إلى لبنان كميات كبيرة من تلك المثلجة والمستوردة بأسعار منخفضة، ليتم تسويقها بعد ذلك على أنها طازجة ومحلية بأسعار أعلى بكثير، في عملية احتيال واضحة تدرّ أرباحا طائلة على حساب جيب وصحة المستهلك. هذه اللحوم، ورغم أنها قد تكون صالحة للاستهلاك، إلّا أن هذا الخداع التجاري المستمر يسلّط الضوء على عمق الأزمة التي يعيشها القطاع الغذائي، بخاصة مع غياب الإجراءات الرقابية الفاعلة لمكافحة هذا النوع من الاحتيال.
ولا يتوقف الأمر عند الغش في الغذاء فحسب؛ فقد رصدت «اللواء» في جولة لها على بعض المتاجر الكبرى تلاعباً متزايداً في ما يتعلق بتسعير السلع وسداد فواتير المستهلكين. فرغم تعليمات وزير الاقتصاد بضرورة دولرة الأسعار وتحديدها بدقة، تبيّن أن العديد من المتاجر يتجاهل هذا القرار، حيث تسعّر غالبا السلع بطريقة غير واضحة. وعند الوصول إلى صندوق الدفع، يُلاحظ أن السعر المعروض لا يعكس دائما ما القيمة المدفوعة فعليا. فإذا كان ثمن السلعة 95 سنتاً مثلاً، يُضطر المستهلك لدفع 100 ألف ليرة، دون أن يُردّ له الفرق البسيط. هذه «المبالغ الصغيرة» المتراكمة تتحوّل في نهاية المطاف إلى مبالغ ضخمة يستفيد منها أصحاب المتاجر دون وجه حق، خاصة مع تراجع قيمة العملة وغياب الرقابة الفعّالة على مثل هذه التجاوزات.
في ظل هذه المعطيات، يتساءل المواطن اللبناني: من يحميه من هذا الخراب المستشري في كل مناحي حياته؟ وكيف يمكن للجهات المعنية التصدي لهذا التحدي المتواصل الذي يهدّد صحة المواطنين وأمنهم الاقتصادي؟ ففي حين تستمر فصول التحايل والتلاعب في شتى القطاعات الأساسية، يبقى المواطن الضحية الأولى في مواجهة غياب الرقابة وضعف العقوبات، مما يدفعه للمطالبة بضرورة تفعيل آليات أكثر صرامة وشفافية، ووضع حدّ لهذه الفوضى التي أصبحت تمسّ كل تفاصيل حياته اليومية.
«الوزارة» بالمرصاد.. ولكن!
تجدر الإشارة إلى أنه، في ظل الأوضاع الصعبة التي يعاني منها المواطنون، تتابع مديرية حماية المستهلك ومصالح الاقتصاد والتجارة في المحافظات في الوزارة جولاتها الرقابية على كافة القطاعات، وذلك لقمع محاولات استغلال الظروف الصعبة من قبل البعض. ونتيجة هذه الجولات، أحال مدير عام الاقتصاد والتجارة، د. محمد أبو حيدر، 92 محضر ضبط إلى القضاء المختص بحق متاجر ارتكبت مخالفات متنوعة، ومنها:
التلاعب بسعر ووزن ربطة الخبز، وحيازة وعرض مواد غذائية منتهية الصلاحية، وعدم إعلان الأسعار على السلع، ومخالفة نسب الأرباح التجارية، وتحقيق أرباح غير مشروعة، ومخالفة التسعيرة الرسمية للمحروقات، وعدم الالتزام بتسعيرة المولدات، وعدم تصديق لائحة أسعار، بالإضافة الى عينة محروقات غير مطابقة، وعدم إبراز فواتير الشراء.
وتؤكد الوزارة، انه رغم الصعوبات التي تعترض عمل المراقبين، فإنها ستستمر في التشدّد في ضبط المخالفات وإحالة المخالفين إلى القضاء المختص.
سحب أصناف من السوق!
من جهته، يوضح مدير عام وزارة الاقتصاد الدكتور محمد أبو حيدر لـ «اللواء» أن «مديرية حماية المستهلك في جميع فروعها لا تزال تقوم بجولات، وقد لاحظنا العديد من المخالفات التي ذكرت أعلاه. وقد أطلقنا حملة تتعلق بموضوع الألبان والأجبان، وبدأنا تنفيذها، وتم إغلاق العديد من المصانع غير المستوفية للشروط القانونية. كما سحبنا مؤخرا صنفين من التداول في الأسواق اللبنانية».
ويتابع «بالإضافة إلى ذلك، هناك نوعان من الغش حاليا: الأول هو استخدام بعض الزيوت المهدرجة غير المطابقة للمواصفات والتي تندرج تحت مسمّى «اللبنة البلدية»، لكنها في الحقيقة مكمل غذائي، وهذا شكل من أشكال الغش. أما الطريقة الثانية فهي استخدام النشاء لزيادة الوزن عبر حبس الماء، وهذا أيضا يُعدّ غشا تجاريا. لذا، تم تسطير محاضر ضبط في هاتين المخالفتين، وأغلقنا بعض المصانع، فيما تم تسطير محاضر بحق أخرى لتصحيح الأخطاء. ونحن نتابع كل شكوى ترد من أي مواطن».
وفي ما يتعلق بعدم إرجاع المبلغ المتبقي للزبون، في حال كان سعر منتج ما 95 سنتاً ودفع المستهلك 100 ألف ل.ل، بحيث يتعمّد البائع عدم إرجاع المبلغ المتبقي بحجّة أن ورقة الـ 5000 أو الـ 10000 لم تعد تشتري شيئاً؛ وفي هذه الحالة، قد يحقق السوبرماركت أرباحا ضخمة من هذه العمليات. يقول أبو حيدر «لا يمكننا اتخاذ أي إجراء في هذه القضية ما لم يتقدم المتضرر بشكوى ضد السوبرماركت أو المتجر».
وعن بيع اللحم الهندي على أنه طازج، يشير إلى «انه يطابق المواصفات، لكن هذه العملية تعتبر غشا تجاريا، لأن سعر اللحم الهندي أقل، ولكنه يباع بسعر أعلى على انه بلدي. لذلك، تم تسطير محاضر بحق المخالفين وإحالتهم إلى القضاء المختص. وفي هذا المجال، نحن نحصل على إشارة من القضاء لإغلاق الملحمة فورا في حال وجود تهديد للسلامة العامة».
ويختم أبو حيدر بالتنويه إلى «تطبيق هذه الإجراءات في مختلف المناطق، وإحالة المخالفين إلى القضاء، لا سيما عندما تتعلق القضايا بالسلامة العامة. لذا، قدمنا اقتراحا لتعديل قانون حماية المستهلك لتكون العقوبات أكثر صرامة بحق كل من يحاول تحقيق أرباح على حساب صحة المواطن».
فرق بين الإنجاز والعمل الروتيني!
من جهتها، تؤكد نائب رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتورة ندى نعمة لـ «اللواء» أن «ملاحقة الانتهاكات أمر روتيني، ولا يجب أن تتوقف الرقابة في وقت الأزمات، بل المطلوب أن تكون حاضرة بشكل دائم. ويُعد تسجيل المحاضر حافزا للتاجر الذي يلجأ إلى الغش. علما بأن هذه المحاضر لا تعكس حقيقة الوضع (إشارة إلى 92 محضرا التي ذكرتها وزارة الاقتصاد)، إذ يعجّ الواقع بالمخالفات مثل التلاعب بالأسعار والجودة والوزن».
وتشدّد على أنه «في أوقات الأزمات يجب زيادة الرقابة وتفعيل العقوبات بحق من نطلق عليهم «تجار الأزمات»، الذين يستفيدون من الظروف الصعبة لمضاعفة أرباحهم على حساب الناس. ويختار المواطن دائما السعر الأقل، وموضوع الألبان والأجبان ليس بجديد، اذ تبرز المشكلات المتراكمة في مثل هذه الفترات».
وعن بيع الألبان بـ «الوقية»، تقول نعمة: «نحن كجمعية ضد البيع «الفلت» وننصح بشراء السلع المعلبة والمختومة، والتي تتضمن تاريخ إنتاج واسماً واضحاً، كما تتعامل جميع دول العالم مع هذا القطاع».
مشيرة إلى أنه «خلال الأزمة الاقتصادية في السنوات الخمس الأخيرة، برزت مسألة خطرة تتمثل بانتشار ألبان من مصادر غير حيوانية في الأسواق، حيث لم يُصرح من قبل التاجر بأنها نباتية، وتباع بسعر منخفض، ما يغري المستهلك. لذلك، تتجلّى خطورة هذه القضية في نوعية الغذاء الرديء. بناءً على ذلك، يجب تشديد المراقبة على هذا المجال».
وتختم نعمة حديثها موضحة ان «الخروقات وكتابة محاضر الضبط تعتبر إجراء بديهياً لا إنجازا. وإذا كانت آليات المراقبة تعمل بشكل صحيح، لوجدنا مخالفات يومية، خصوصا في ظل الفوضى التي نعيشها في لبنان».