مساعدات لبنان بين الروتين والإهمال… المساعدات الإنسانيّة الى أين؟
منذ بداية الحرب “الإسرائيلية” على لبنان، تدفقت العديد من شحنات المساعدات الإنسانية إلى البلاد بهدف تخفيف وطأة الأزمة التي يعيشها اللبنانيون نتيجة القصف والدمار. ومع ذلك، رغم الجهود الدولية والمحلية، فإن المساعدات لم تصل إلى الجميع، بل تاهت في ممرات فترات التخزين الطويلة، وحسابات سياسية ضيقة. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: إلى أين تذهب هذه المساعدات؟ ومن هم المستفيدون الحقيقيون منها؟ تتعدد الأجوبة وتختلف، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن العديد من المواطنين لم يروا أي أثر لهذه المساعدات، بينما يعاني البعض الآخر من معاناة مضاعفة نتيجة فوضى التوزيع.
البداية مع المحامي علي عباس
القضية بدأت عندما تقدم المحامي علي عباس إلى وزير البيئة ناصر ياسين، الذي يتولى أيضاً رئاسة لجنة الطوارئ الوزارية في لبنان، بطلب رسمي لحق الوصول إلى المعلومات. في هذا الطلب، سعى عباس للحصول على تفاصيل دقيقة عن المساعدات الإنسانية التي وصلت إلى لبنان: ما هي أنواعها؟ كم بلغ حجمها؟ من هي الجهات المانحة؟ وكيف تم توجيهها وتوزيعها؟ هذا الطلب كان يهدف إلى ضمان أن المساعدات تصل إلى مستحقيها في ظل الظروف الصعبة التي يعاني منها اللبنانيون نتيجة الحرب.
بعد ذلك، قام عباس بمشاركة أصدقائه بإرسال كتاب آخر إلى رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد الخير، الجهة التي تتولى عملية تسليم المساعدات، لكنها لا تشرف مباشرة على التوزيع. والهدف من هذا الكتاب كان تمكين عباس مع زملائه من مقارنة المعلومات التي تصل إليهم من مختلف المصادر، وتوفير قاعدة بيانات موحدة تسهم في تسليط الضوء على أي تضارب أو قصور في عملية التوزيع.
آلية التوزيع: أسئلة محورية وإشكاليات كبيرة
الآلية التي يعتمد عليها لبنان في توزيع المساعدات الإنسانية تكمن في نقل المواد من الهيئة العليا للإغاثة إلى المحافظات والبلديات، والتي تقوم بدورها بتوزيعها على المستفيدين. ولكن هذه الآلية أثبتت أنها مليئة بالثغرات والمشاكل، ما يطرح العديد من الأسئلة عن فاعليتها.
في مناطق مثل البقاع، يعاني المواطنون من عدم وجود بلديات فاعلة بعد حل العديد منها، أو بسبب ضعف البنية الإدارية في المناطق الريفية. هنا يصبح توزيع المساعدات مسألة شائكة، إذ يتم تسليمها إلى موظفين حزبيين في الغالب، مما يخلق أرضاً خصبة للزبائنية والمحسوبيات. في هذه الحالة، لا يتم توزيع المساعدات بشكل عادل، بل يتم تخصيصها لأشخاص ذوي علاقات سياسية أو حزبية. وهذا الوضع يفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المواطن البقاعي. كما أنه عادةً تتدخل القوى السياسية لتوجيه المساعدات لصالحها، بما يتماشى مع حساباتها الانتخابية أو السياسية.
غياب الشفافية والمحاسبة
طالب المحامي علي عباس بشكل واضح بضرورة وجود آلية شفافة، تتيح لجميع المواطنين معرفة كيفية توزيع المساعدات وتضمن وصولها إلى من يستحقها، بعيداً عن أي تدخلات حزبية أو طائفية. وهذا يطرح السؤال حول قدرة الحكومة اللبنانية على تطبيق معايير الشفافية في ظل الانقسامات السياسية الحادة.
في هذا السياق، تواصل وزير البيئة ناصر ياسين مع المحامي عباس، وأرسل له عينة من البيانات المتعلقة بالمساعدات التي وصلت إلى لبنان. ووعده الوزير بتزويده بمزيد من المعلومات حول آلية توزيع المساعدات في المستقبل. كما أبدى اللواء خير، المسؤول الأمني، استعداده لمساعدة عباس في الحصول على المعلومات الدقيقة حول المساعدات وآلية وصولها إلى المستفيدين. لكن تظل الأسئلة الأساسية دون إجابة: كيف يتم التأكد من وصول هذه المساعدات إلى الفئات الأكثر حاجة؟ وهل يتم مراقبة عمليات التخزين والتوزيع بشكل فعال؟
التخزين في المطار: كارثة في الانتظار
من أكبر المشاكل التي كشفتها “الديار” هي عملية التخزين غير الملائمة للمساعدات. فالعديد من المساعدات، بما فيها مواد غذائية وطبية، تم تخزينها في أماكن غير مجهزة في مطار بيروت أو في مرافق أخرى، ما يعرضها للتلف بشكل كبير. فالبعض يتحدث عن تأخير طويل في إخراج المساعدات من المطار أو من نقاط التخزين، مما يؤدي إلى فساد المواد الغذائية وتلفها.
أزمة التخزين لم تقتصر على الغذاء فقط، بل شملت أيضاً المواد الطبية. فالعديد من الأدوية التي وصلت إلى لبنان على متن طائرات المساعدات، لم يتم توزيعها في الوقت المناسب. هذا التخزين العشوائي يشكل تهديداً حقيقياً للصحة العامة، في وقت كان من المفترض فيه أن تُوجه هذه الأدوية إلى مستشفيات المناطق الأكثر تضرراً.
مساعدات الجمعيات: غموض وتداخل
فضلاً عن القنوات الرسمية المتمثلة بالهيئة العليا للإغاثة، هناك العديد من الجمعيات الخيرية التي تلعب دوراً في توزيع المساعدات. لكن، علمت “الديار”، إن بعض هذه الجمعيات أيضاً تواجه صعوبات كثيرة في إخراج المساعدات وتوزيعها. ففي بعض الحالات، تواجه هذه الجمعيات صعوبات في توزيع المساعدات بسبب صراعات داخلية أو خلافات على كيفية تخصيصها. فالعديد من هذه المساعدات، بما فيها مواد غذائية، مكدسة بشكل عشوائي في مطار بيروت الدولي، مما يعرضها للتلف بسبب تأخير عملية إخراجها من مستودعاتها.
النازحون: ضحايا التوزيع العشوائي
ربما تكون الأزمة الأكبر هي حالة الأشخاص النازحين الذين لا يقيمون في مراكز الإيواء الرسمية. هؤلاء النازحون الذين لجأوا إلى منازل أقاربهم أو استأجروا شققاً في مناطق أخرى يعانون من عدم وجود آلية منظمة لتوزيع المساعدات عليهم. في ظل غياب آلية موحدة وفعالة لتسجيل هذه الفئات على المنصات الحكومية أو من خلال جمعيات مرخصة، فإنهم يصبحون ضحايا النسيان، ولا تصلهم المساعدات التي هم بأمس الحاجة إليها.
ورغم أن الحكومة أعلنت عن إطلاق منصة إلكترونية لتسجيل النازحين، إلا أن معلومات “الديار” تؤكد أنه لم يتم تسليم أي مساعدات حتى الآن للأشخاص الذين تم تسجيلهم عبر هذه المنصة. وهذا يثير الكثير من التساؤلات حول مدى جدوى هذه الآلية، ويؤكد على الحاجة الملحة لإصلاح النظام اللوجستي الخاص بتوزيع المساعدات.
فضائح أخرى: المساعدات تذهب إلى المجهول
ومن أبرز الفضائح التي علمت بها “الديار” والتي شهدتها منطقة البقاع، تلك التي حصلت مع أول قافلة مساعدات وصلت إلى المنطقة. فقد تم قصف شاحنة تحمل هذه المساعدات من قبل العدو الاسرائيلي، التي كانت موجهة إلى النازحين والمتضررين، وتم تسليمها لاحقاً إلى الشيخ بكر الرفاعي في بعلبك. وحسبما يشاع، قام الرفاعي بتوزيع المساعدات على جهات حزبية. هذا التوزيع يثير غضب المواطنين في البقاع، فكيف تم توزيعها على جهات حزبية؟
ففي ظل وجود عدد كبير من البلديات والمخاتير الذين تم حلهم في المنطقة، يجعل عملية التوزيع تخضع بشكل كبير للولاءات الحزبية. وبالتالي، عندما يتم تسليم المساعدات إلى موظفين في البلديات (المعروف انتماءها الحزبي)، قد يتحول التوزيع إلى مسألة زبائنية تخدم مصالح سياسية ضيقة، أثار غضب العديد من المواطنين في المنطقة الذين احتجوا على أسلوب التوزيع الموجه لصالح فئات سياسية معينة.
إضافة إلى ذلك، هناك فضيحة أخرى علمت بها “الديار” تتعلق بشحنة من الأدوية العراقية التي وصلت إلى لبنان. حيث كان من المفترض أن يتم توزيع هذه الأدوية عبر مجلس الجنوب، ولكن حتى الآن لم يتمكن أحد من تحديد مصير هذه الشحنة، وهناك مخاوف من أن تكون قد تم تخزينها لتُباع لاحقاً في الأسواق اللبنانية أو خارجها. هذه الحادثة تثير القلق حول مصير العديد من الشحنات الطبية الأخرى التي يتم تخزينها في مراكز غير مؤهلة، مما يعرض حياة المواطنين للخطر.
فبينما يواصل اللبنانيون معاناتهم جراء الحرب المستمرة، يبدو أن المساعدات الإنسانية التي وصلت إلى البلاد لم تحقق الهدف المنشود منها: تخفيف معاناة الشعب اللبناني. يظل السؤال قائماً حول مصير هذه المساعدات: هل تصل إلى من يستحقها؟ وهل هناك أمل في إصلاح النظام الإداري الذي يعيق وصولها؟ الحقيقة أن لبنان بحاجة إلى إصلاحات جذرية في آلية توزيع المساعدات، وضمان الشفافية في التعامل مع هذه القضايا الحساسة. فما لم يتم تنفيذ هذه الإصلاحات، فإن المساعدات ستظل ضائعة بين التقارير والبيانات، وسيستمر المواطنون في دفع ثمن الفوضى والفساد.