الأسواق المالية: بين الدور الطبيعي والتحديات الحديثة
تبعا لأهم قوانين الأسواق المالية ومنها أساسهم أي قانون 1934 الأميركي، دور الأسواق المالية هو تأمين تبادل الأصول والسندات. هذا مع الحفاظ على حقوق المشاركين ومنع الابتزاز والاستغلال كما تحقيق العدالة والنزاهة. ضروري أيضا الغاء جميع الحواجز أمام حرية الأسواق بالاضافة الى حماية المستثمرين من الغش. من الضروري الحفاظ على المصالح العامة والوطنية كما على حقوق المشاركين أيا كان دورهم. أيننا نحن من كل هذه التمنيات الفاضلة الموضوعة منذ 90 سنة؟
لم تعد الأسواق كالسابق تؤدي الدور الشفاف الايجابي لخدمة الاقتصاد والمواطن. هنالك ضبابية حالية مؤثرة في كل الأسواق ناتجة عن تصغيرها وتقسيمها لخدمة مصالح مالية وسياسية كبيرة متحالفة. فالهيكلية الجديدة تعطي نتائج غير فاضلة لا تصب في مصلحة النمو والمواطن. منذ عقود، كانت هنالك سوق نيويورك NYSE التي لأكثر من مئة سنة نظمت التبادل المالي العالمي وساهمت في تحديد أسعار عدد كبير من السلع والمواد الأولية والخدمات. أما حديثا فالأسواق الرئيسية أصبحت موزعة على كافة القارات وبالتالي التواصل فيما بينها جيد لكنه ليس كاملا مما يسمح بحصول العديد من التجاوزات والأخطاء.
ما هو الدور الطبيعي للأسواق؟ تصمم لنقل الثروة من أصول وسندات وغيرها بين المواطنين عبر عمليات بيع شرعية يتفق عليها الطرفان. هذا التصميم يقع في قلب أسواق اليوم التي تملك قوة كبيرة لم تكن موجودة في السابق. ما هو الجديد المهم بل الفارق الكبير بين أسواق الماضي واليوم؟ هنالك فرقان كبيران أي أولا تقنيات اليوم تعتمد على لغات حواسبية معقدة متقدمة تدخل فيها عوامل الوقت والحجم والسعر. ثانيا استعمال الحواسب الكبيرة السريعة لحفظ المعلومات والاحصائيات تتطلب حصول فرقاء السوق على مؤهلات علمية متقدمة في الرياضيات والاحصائيات وحتى المحاسبة. ما سبق مكلف جدا تحقيقه، وحتى الاستشارات فيما يخص هذه الكفاءات مكلفة في عالمنا المتشابك المعقد. لذا تحول التبادل التجاري المالي الحديث الى عمليات خطرة سريعة وأحيانا مبهمة.
يجب أن يكون للمشارك في الأسواق درجة عالية من الكفاءة التقنية والمحاسبية يستطيع عبرها تصميم طرق أو خطط للاستفادة من الأسواق أي تحقيق أرباح وافرة. اذا كان غير قادر على ذلك عليه تكليف خبراء السوق، علما أن تكلفة أعمالهم مرتفعة جدا في عالمنا ولا ضمانات فيما يخص النجاح. هنالك العامل الآخر أي تقسيم الأسواق العالمية الى أجزاء مما يعقد عمليات التبادل وتحديد الأسعار. فالتواصل بين هذه الأسواق ليس دائما مدروسا وشفافا، وليست هنالك قواعد واضحة للجميع بل تكون هنالك فوارق كبيرة رقمية أمام المستثمر تعقد عمليات التبادل. العامل الآخر المهم وهو أن ما يتم تبادله عبر هذه الأسواق أصبح أضعاف ما كان يحصل منذ عقود لأن الأسواق كبرت وتنوعت وأصبحت أكثر تعقيدا. في القرن الماضي كانت تتم ملايين عمليات التبادل يوميا عبر الأسواق، أما اليوم نتكلم عن مليارات العمليات اليومية أي أسواق مختلفة كليا.
في أي سوق، ليس الأهم هو الحجم بل نوعية التبادل عبر آليات وحواسب وتقنيات. فالعوامل التي ينظر اليها هي مثلا هل هنالك وسائل لحماية المستثمر من الغش والضبابية؟ هل هنالك ما يضمن شفافية الأسواق وعدم استطاعة أي جهة التلاعب بها وما هو العقاب المعتمد؟ ما هي الضمانات للحفاظ على فعالية الأسواق ووصولها الى النتائج الفاضلة الصحيحة الحقيقية غير المنحازة؟ دور من يربط البائع بالشاري مهم جدا ويجب أن يقوم بعمله على أفضل أوجه حماية للسوق واستمراريتها.
الحقيقة أن شفافية الأسواق انحدرت في السنوات القليلة الماضية، مما يفسر حصول أزمات مصرفية ومالية واقتصادية كبيرة في الولايات المتحدة وخارجها. ما حصل هو بسبب ضعف الرقابة على عمليات السوق والذين يقومون بها، مما سمح بحصول العديد من التجاوزات والخروقات لمختلف القوانين. ارتفع جشع المشاركين في كل الأسواق على حساب الفعالية والشفافية مما سبب اعطاء أسواء النتائج لمصلحة الأقوياء والأغنياء وضد المواطن العادي. ما يدعو للعجب أن الذين يدعون للاصلاح ولتقوية المنافسة في كل الأسواق هم عموما الذين يستفيدون من الأوضاع الحالية ويرغبون باستمرارها. هل الهدف هو تحويل الأنظار عما يحصل أو تغيير القواعد لتخفيف المنافسة أكثر وتحقيق المزيد من الأرباح على حساب المواطن العادي؟
أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالرغم من صوابية التمييز بين مجموعة دول الخليج وخارجها، ما زالت بعيدة عن التطورات العالمية في ايجابياتها وسلبياتها. أسواق المنطقة مشرذمة والتبادل بطيء وقليل، وفي نفس الوقت المنطقة بعيدة عن القواعد والتقنيات المعتمدة دوليا. يجب تدريجيا الوصول الى حجم التبادل الأعلى والأسعار الأدنى للسلع والخدمات.
ليس مهما فقط تحقيق الشفافية والفعالية بل يجب نشر الثقافة المالية في كل أرجاء المنطقة حتى يستطيع المواطن المشاركة في الأسواق أو أقله فهم ما يجري على أرض السوق. ما زلنا مقصرين فيما يخص الثقافة المالية الأساسية. حتى لو كانت الأسواق مشرذمة في المنطقة، لا مانع من ربطها حواسبيا لجذب أكبر كمية ممكنة من النقد ولتحقيق أكبر حجم ممكن من التبادلين المالي والتجاري. لكن هذا لا يكفي اذ نحتاج أيضا الى تحقيق التجدد المالي الداخلي وليس استيراده فقط. تحقيق عوامل السرعة والكمية يتطلب استعمال أجهزة حديثة مكلفة ربما يعجز معظم مواطني دول المنطقة ومؤسساتها عن شرائها.
يقول الاقتصادي «ستيغليتز» أن ما يجري بحثه من تطورات في الأسواق المالية يبقى ضمنها ولا يؤثر بتاتا على الاقتصاد الحقيقي الذي يحتاج الى الاستثمارات في القطاعات الأساسية أي الزراعة والصناعة والخدمات بينها المالية. ما يحصل من تطورات في الأسواق المالية يقول «ستيغليتز» يهم المشاركين فيها وخاصة الميسورين المستفيدين ولا يهم الاقتصاد ككل.