بلجيكا تضبط فستقاً حلبياً مصدّراً من لبنان يحتوي على مادة مسرطنة
في 3 أيار 2023 أعلنت بلجيكا عن ضبط كمية من الفستق الحلبي المصدّر من لبنان بسبب التلوث بمادة “افلاتوكسين ب 1″، وهي واحدة من أقوى المواد السامة التي تظهر بشكل طبيعي، وتنتجها الفطريات.
قبل أيام من هذه الحادثة، حجزت قبرص بهارات كمون_مطحون مصدّر من سوريا عبر لبنان ، والسبب يعود إلى احتوائه على بقايا مبيد غير مرخص ويسمى لنورون.
هذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها إلى العلن فضيحة عن سلامة الغذاء، ونتذكر جيّداً الرسالة التي وجهها السفير اللبناني في اليابان إلى وزير الخارجية في لبنان في العام 2018، وأثارت ردود فعل كثيرة.
كان فحوى هذه الرسالة أن اليابان تمنع استيراد المكسرات اللبنانية نتيجة احتوائها على نوع من “العطنة” تنمو وتعشعش داخل غلاف الفستق الحلبي وتتسبب بأمراض سرطانية عند تناولها داخل جسم الإنسان. هذه الخلاصة جاءت بعد اجراء أبحاث طبية عديدة في اليابان، قبل عدة سنوات، شملت الفستق الحلبي والمحمص.
إذا كانت البضائع التي تُصدر إلى الخارج تحتوي على هذه المادة المسببة للسرطان، فما حال المنتجات والبضائع الموجودة في السوق اللبنانية والتي تفتقر إلى الرقابة الفاعلة لضمان سلامتها وحسن تخزينها وتعليبها؟
لم يعرف كثيرون بخبر ضبط هذه الشحنة إلى بلجيكا وما تحتويه من مادة مسرطنة، ولم يصدر عن الدولة اللبنانية أي توضيح حول تفاصيل ما جرى. وتبيّن أن نسبة “أفلاتوكسين ب 1” في الفتسق الحلبي المُصدر بلغت 261ug/kg في حين أن الحدّ الأقصى المسموح به هو 8 ug/kg، ما يعني أن الكمية الموجودة تتخطى المسموح بعشرات المرات.
وفي متابعة للموضوع مع وزارة الاقتصاد، أكد مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد طارق يونس أن “ألوزارة تتابع التحقيق بعد أن تبلغت بإشعار حول منتج معين في احدى الدول. نحن نتابع الموضوع بالتفصيل، وفي انتظار أخذ عينات للتأكد من صحة النتائج، وبعد صدورها يصدر القرار إما بتلفها أو بإعادتها، ولكن لا يمكن الحديث عن أي شيء اليوم قبل انتهاء التحقيق وصدور النتائج”.
وعن زيادة التحذيرات أو الحالات المشابهة في دول أخرى لبعض المنتجات المصدرة من لبنان، يشدّد على أن “الرقم ليس كبيراً وأن الصناعة اللبنانية ملتزمة بالمواصفات الدولية ومطابقة لها، والحالات التي يتم الإبلاغ عنها هي محدودة جداً مقارنة بالماضي”.
لكن ماذا تعني هذه التحذيرات؟ وماذا بعد إعادتها إلى لبنان؟
يوضح البروفيسور عصمت قاسم العامل في مركز سلامة الغذاء في جامعة جورجيا (الولايات المتحدة) أن “عادة تفحص الدولة أي منتج مُصدر إليها قبل دخوله إلى البلد وتوزيعه، وفي الفترة الأخيرة ضبط في بلجيكا كمية من الفستق الحلبي المُصدر من لبنان. وقد يسارع البعض إلى القول إن لبنان لا ينتج الفستق الحلبي، ولكن ما يجب أن نعرفه أن لبنان يستورد الفستق ويحمّصه ومن ثم يعلبه ويضع عليه “أنتج في لبنان”.
وفي التفاصيل، احتوت شحنة الفستق الحلبي على مادة “أفلاتوكسين ب 1” بنسبة عالية، وبما أن هذه المادة سامة فقد صودرت الشحنة ومُنعت من الدخول، وأرسل كتاب إلى الشركة المعنية وإلى الدولة المُصدرة. ولم يذكر تقرير الاتحاد الأوروبي اسم الشركة بل اكتفى بتأكيد توجيهه كتاباً إلى الشركة المعنية.
والسؤال الذي يطرح هو هل هناك منتجات مماثلة في البلد؟ وما الذي يجب معرفته عن مادة “أفلاتوكسين”؟
يؤكد قاسم أنها “مادة سامة تفرزها الفطريات أو العفن، وقد يصل إلى الفستق إما من الحقل أو نتيجة سوء التخزين. وتعتبر المادة خطيرة لأنها تدمر الحمض النووي وتُسبب السرطان.
وتجدر الإشارة إلى أن الهدف ليس الإساءة إلى الصناعة اللبنانية ومنتجاتها وإنما معرفة حقيقة ما يجري في لبنان، في ظل غياب الفحوص الدورية والرقابة الدائمة.
ويتساءل قاسم عن المشكلة، وهي عبارة عن استيراد منتجات من دون القدرة على فحصها، وفي حال وصل ملوثاً لا يمكن التخلص منه في عملية التصنيع، ما يعني أن المنتج سيبقى ملوثاً. والمشكلة تبقى غياب الفحوص، والتي تؤثر على سمعة البلد أولاً. والأخطر أنها تؤثر على صحة الناس الذين يتناولون ما هو متاح ومتوفر.
صحيح أن ضبط شحنة غير سليمة تبقى فردية ولا يمكن تعميمها، إلا أن تكرارها يعكس حجم الأزمة في ملف سلامة الغذاء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ضبطت قبرص كمية بهار يحتوي على مبيد مصنوع في سوريا ومُصدر عبر لبنان.
ولو كان لدينا مختبر وقدرة لفحصها لكانت النتائج تظهر أنها غير سليمة.
وبالعودة إلى موقع الاتحاد الأوروبي لسلامة الغذاء، يمكن أن نلاحظ أن هذا التحذير يندرج ضمن تحذيرات أخرى مثل الكسكس والطحين والعنب وغيرها من المنتجات للعام 2022، التي تحتوي على مبيدات وبكتيريا ومواد غير مرخصة تُستخدم في عملية الإنتاج.
كذلك أعدت الجامعة اللبنانية دراسة عن الحليب الخام. و المعروف أن لبنان ممنوع من تصدير الألبان و الأجبان إلى أوروبا بسبب عدم القدرة على فحص ترسبات الأدوية فيها، وكشفت النتائج أن 96 في المئة من العينات غير مطابقة للمواصفات.
ولكن ما هو الحل أمام هذا الواقع؟
النصيحة التي يشدّد عليها قاسم تتمثل بفحص المنتج، وقد تكون العملية مكلفة لكنها تبقى أوفر من خسارة كل المجهود في إصدار شحنة غير سليمة. وعليه، ننصح بفحص المواد الأولية والمنتج قبل تصديره للتأكد من سلامته.
ما هي هذه المادة؟
في الكلام العلمي، هذه المادة العفنة معروفة جيداً، واسمها “أفلاتوكسين”. وتشرح الدكتورة أميرة حدارة، الباحثة في تكنولوجيا وصناعة الغذاء والأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية في حديث سابق لـ”النهار”، “أنها من المركبات الذيفانية المؤذية جداً. وتقول الدراسات والأبحاث التي أُجريت حتى اليوم أن أكبر نسبة أفلاتوكسين موجودة في المكسرات، لا سيما الفستق الحلبي والفول السوداني”.
وتنبه إلى أن “الخطر في الحالتين أن يكونا ملوّثين بـ”الافلاتوكسين بي 1″ الأخطر، اذ من شأن هذه المادة تعريض الناس للإصابة بالسرطان، من خلال تدميرها الحمض النووي للإنسان، إلى جانب تسببها بأمراض في القلب والأوعية الدموية ونقص المناعة والجهاز الهضمي ونقص النمو عند الأطفال”.
طريقة حفظ المكسرات وحبوب أخرى، لا سيما القمح، من أهم المسائل التي تشدد عليها حدارة، “بحيث يتوجب التنبه إلى حمايتها من الرطوبة”، وتأمين البيئة المناسبة المانعة لـ”الأفلاتوكسين” وتكاثرها. وتحذّر من أن “بيع المكسرات مكشوفة على الطريق من شأنه أن يؤمن البيئة الملائمة لتكاثر هذه المادة العفنة، لتوفر الدفء لها بسبب أشعة الشمس، وأيضاً الرطوبة. فكيف إذا كانت الرطوبة مضاعفة؟” تخفيف تكاثر هذه العفنة يستوجب، على حد قولها، “بيئة جافة، مع قليل من البرودة”.
من جهته، لا يُخفي رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو أن “ما يُسجل في ملف سلامة الغذاء ليس مستغرباً أو جديداً، فالدولة اليوم شبه معدومة وغياب الرقابة يزيد من حجم الأزمة. نحن أمام عجز شامل ولا يمكن التغاضي عن مسألة سلامة الغذاء لأنها مسألة تخص صحة المواطنين وسلامتهم. وبرغم من صدور قانون سلامة الغذاء فإنه لم يطبق منذ 8 سنوات، نحن أمام مخاطر صحية حقيقية وكلما زاد الفقر أكثر ساء الوضع الصحي سوءًا”.
ورأى أن “الظواهر التي تنتشر في البلد باتت موجودة بكثرة، حتى إن بعض المواد منتهية الصلاحية يتم التلاعب بها وبيعها في الأسواق من دون حسيب أو رقيب. علماً أن مادة “أفلاتوكسين” موجودة في معظم الحبوب والبهارات والمكسرات (وأسوأها الفستق الحلبي) وتتكاثر أكثر في ظروف تخزين سيئة. معظم البضائع الموجودة غير سليمة أو يتم إعادة تدويرها وإطعامها للبنانيين، ولا أحد يعرف مدى سلامة البضائع في السوق”.
ويبقى أن نعرف أن ما يتم ضبطه والإعلان عنه أقل بكثير مما هو على أرض الواقع، نحتاج إلى تكثيف التوعية والتشديد على المراقبة لأن سلامة الغذاء في لبنان في مأزق خطير في ظل الفوضى وغياب المساءلة.