يبدو أن قدر اللبناني محكوم عليه بالدولار الأخضر، فإذا ما قررت القيام بجولة في أسواق لبنان ستجد أن الأسعار باتت تحدد بالعملة الصعبة. ولم يعد يقتصر الأمر على سعر المازوت الذي قامت الدولة بتسعيره رسمياً بالدولار الأميركي، وإنما تجاوزه لجميع نواحي الحياة، من الملابس والأحذية والأثاث إلى قطع السيارات والأدوات المنزلية والأدوية والمستشفيات وأقساط المدارس الخاصة وإيجار الشقق والمحلات، وغيرها من النشاطات التجارية والاقتصادية.
صحيح أن علاقة حميمة تربط اللبناني بالدولار، وأن الدولرة ليست بجديدة في لبنان، إلا أن الانتقال من سعر صرف ثابت عند مستوى 1500 ليرة، إلى سعر السوق الحرة القائم على العرض والطلب، أوصل الدولار إلى مستوى جديد، حيث تخطى عتبة 21000 ليرة لبنانية. وبالتالي سقطت نبوءات “حكومة الإنقاذ” بتثبيته عند مستوى 12000 ليرة لبنانية، وهو مرشح للازدياد مع تزايد المؤشرات السلبية، واتساع العزلة عن المحيط الاقتصادي والثقافي، والعمق العربي.
لذلك أصبح التسعير بالدولار، يعني مضاعفة فاتورة اللبناني بنحو 14 ضعفاً، مقارنة لما كانت عليه الفاتورة قبل ثلاث سنوات فقط، ولكنه في المقابل، يشكل عامل أمان بالنسبة إلى التاجر، فتقاضي الدولار يؤشر على احتفاظه برصيده من العملة الصعبة، وهامش دقيق من الربح
تطرح ظاهرة الدولرة عدة تساؤلات: هل هي نتيجة للأزمة التي يعيشها لبنان؟ أم أنها وليدة لفجوة الثقة التي تتسع يومياً بين اللبناني والطبقة السياسية والاقتصادية؟ أم أنها انعكاس تلقائي للاعتماد على الدولار طوال عقود من الزمن؟ ومن ثم هل يعد ذلك أمراً مقبولاً من الناحية الواقعية، حيث تحل عملة أجنبية في التعامل مكان النقد الوطني؟
تؤكد ليال منصور، المتخصصة في الاقتصاد النقدي، “شئنا أم أبينا، نتجه نحو الدولرة الشاملة في لبنان، وباتت أمراً واقعاً”، وهذا الأمر يمكن أن يمهّد لاعتماد بعض الحلول على غرار “مجلس تثبيت النقد” من خلال “إلباس الدولار الأخضر لباس العملة الوطنية في الدولة التي تعاني الأزمات، وبلغت الانهيار، حيث يمكن أن يصبح الدولار اللبناني مساوياً للدولار الأميركي”.
واقع غير مريح
تصف منصور الحالة اللبنانية بأنها “أزمة مزدوجة شديدة الخطورة، وتتمثل بأزمة نقدية وأزمة مصرفية، وهي من أشد الأزمات التي عايشها لبنان منذ تأسيسه”. وقد أدى ذلك إلى أزمة ثقة، وتأسيس بيئة اقتصادية معادية للاستثمار.
على صعيد الأزمة المالية، فإن لبنان يعاني فقدان الثقة بمصرف لبنان. ووفق منصور، فإن هذه الأزمة من نتاج قراراته الاستنسابية وغياب الشفافية، وأزمة الملاءة والسيولة، إلى جانب عدم اللجوء إلى سياسات صارمة لمعالجة آفة الدولرة المزمنة.
كما تسلط منصور الضوء على أزمة الثقة بالليرة اللبنانية، حيث لم يتمكن المصرف المركزي من تعزيز ثقة المواطن بالعملة الوطنية، ما أدى إلى تمسكه أكثر فأكثر بالدولار الأميركي في تعاملاته باعتباره عملة موثوقة ومستقرة. وتشير منصور إلى الاعتماد المستمر على نسبة دولرة مرتفعة بين 65 و75 في المئة.
كما شهد لبنان تضخماً متعاظماً بسبب زيادة حجم الكتلة النقدية من خلال طبع وإصدار نقد جديد، ناهيك بارتفاع معدلات الفائدة على الليرة اللبنانية. ووفق منصور، أثر ذلك في عدم تشجيع أو تعزيز الاستثمارات الداخلية والخارجية.
ويعاني القطاع المصرفي أزمتي ملاءة ونقص في السيولة، أدّتا إلى حجز أموال المودعين وإغلاق المصارف أبوابها واعتمادها سياسة استنسابية في تعاملها مع زبائنها.
هل الحل الجذري ممكن؟
تعتقد منصور أنه “لا يمكن معالجة الأزمة الاقتصادية من خلال إصلاحات تقوم على إعادة هيكلة الدين والمصارف فقط”، فهذه الإجراءات “يمكن أن تعزز بيئة الأعمال، ولكن لا يمكنها أن تعيد الثقة إلى السوق المالية”.
لذلك، فإن “استعادة الثقة بالسوق المالية تحتم اللجوء إلى معالجات جذرية وإصلاحات بنيوية من خلال إعادة النظر بالسياسات النقدية والمالية المعتمدة”، وفق منصور، التي ترى أنه “لا يمكن اعتماد سياسة تحرير سعر الصرف في بلد مدولر كلبنان”.
تقترح “نظام صندوق تثبيت القطع” الذي تصفه بـ”أكثر أنظمة تثبيت سعر الصرف تشدداً وأماناً واستقراراً”. وتوضح منصور أنه يقوم على ثلاث ركائز، هي: تحديد سعر ثابت غير قابل للتغيير لصرف العملة اللبنانية بالنسبة إلى الدولار الأميركي، تكوين احتياطي من العملات الأجنبية بنسبة 100 في المئة على الأقل من حجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة اللبنانية، وإلغاء السلطة الاستنسابية للمصرف المركزي.
وتشير منصور إلى أن اعتماد هذا النظام “يؤدي إلى إنعدام أي مبرر لاستعمال الدولار في التعاملات الداخلية أياً كان نوعها، كما يشكل عاملاً لجذب الاستثمارات وتعزيز فرص العمل والمنافسة وزيادة الصادرات ونمو اقتصادي ملحوظ”.
تشبه منصور وضع لبنان الحالي بدول أخرى عانت من أزمات مالية واقتصادية شديدة، وحققت نتائج إيجابية وملموسة منذ العام الأول لاعتماده، مذكرةً بإعداد اقتراح قانون ينص على اعتماد هذا النظام، قدمته النائبة المستقيلة بولا يعقوبيان بالاستناد إلى معايير علمية.
العملة الوطنية هي الأساس
لا يستقيم البحث في موضوع التعامل بالعملة الأجنبية في لبنان، من دون إثارة الشق القانوني المتعلق بحلول عملة أجنبية محل العملة الوطنية في التعاملات.
من حيث المبدأ، لا مشكلة في حال توافق الأطراف على التعامل بالعملة الأجنبية، ولكن المشكلة تظهر للعيان عندما يُصر الزبون على التمسك بالعملة الوطنية، إذ يؤكد المشرع اللبناني على القوة الإبرائية للعملة الوطنية. فقانون النقد والتسليف يعتبر الليرة الوحدة النقدية الرسمية للبلاد، وهي ذات قوة إبرائية مطلقة، والامتناع عن قبول السداد بها قد يشكل فعلاً جرمياً وفق قانون العقوبات، حيث تنص المادة 319 على عقوبة الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات. كما يحق للشخص المتضرر أن يتقدم بشكوى إلى الضابطة العدلية