كتبت سلوى بعلبكي في “النهار”:
يوماً بعد يوم، تثبت بقايا هذه الدولة هشاشة سلطاتها وعقم رؤاها، وامتهانها الارتجال والعشوائية في قرارات غير مدروسة، تأتي نتائج معظمها وبالاً على الناس، ونقيض ما تهدف إليه. هذه الدولة التي أهدرت بسياساتها “الشعبوية” نحو 8 مليارات دولار، ذهبت بمعظمها تهريباً إلى سوريا، أو إلى جيوب التجّار النافذين والمحميّين، ومحرقة “الفيول” في مغارة الكهرباء، أهملت النصح والمطالبات بوقف نزف الاحتياط وحماية ما بقي من سيولة بالعملة الصعبة في مصرف لبنان، من دون أن يرفّ لها جفن.
أما وقد حان وقت الجدّ والوجع، ورفع الدعم بعدما وصل عدّاد الاحتياط الى الصفر تقريباً (اللهمّ إلا إذا أخرجنا الاحتياط الإلزامي للمصارف من “بيان الموجودات”)، فإن رفع الدعم، وإن كان قراراً جريئاً، بيد أن أسوأ ما فيه أنه أتى متأخّراً سنتين، كان يمكن خلالهما توفير مليارات من العملات الأجنبية، واستعمالها ولو جزئياً للدفاع عن الليرة.
بالأمس، رفعت الدولة “جزئياً” الدعم عن الغالبية الساحقة من الأدوية. وكان القرار، بالرغم من مشروعيته، واحداً من القرارات العشوائية التي تتكرّر على أيدي مسؤولين يفتقرون الى الحد الأدنى من صفتي الحسّ بالمسؤولية والرؤية الإنسانية، اللتين يجب أن يتحلّى بهما أيّ مسؤول عند اتخاذه قرارات عامّة ذات تأثير كبير على المواطنين، فما بالك بقرار بحجم رفع الدعم عن الأدوية، ومضاعفة أسعار غالبيتها إلى أكثر من 10 أضعاف، لمريض بائس يتقاضى راتبه “غير المدعوم” بالليرة اللبنانية. قرار لم يراع أو يأبه لمصير مؤسسات ضامنة فقدت سيولتها في المصارف، وخسرت قيمة مدّخراتها بانهيار الليرة، نتيجة استثمارها المفرط في سندات الخزينة، وأضحت عاجزة عن القيام بوظيفتها ودورها في منح الأمان الصحّي والاجتماعي للمواطنين.
يبقى السؤال المربك: هل عجزت العقول المالية والمحاسباتية، ووزراء “التكنوقراط”، عن إيجاد حلّ مرحلي، تستمرّ من خلاله الدولة في دعم نسبي للأدوية، يرفع الوجع عن الناس، ويساعد في إبعاد شبح الانهيار عن المؤسّسات الضامنة التي ستعجز حتماً عن تسديد فواتير الاستشفاء و#الدواء المتضاعفة أسعاره 10 مرّات على الأقل؟
صحيح أن سياسة الدعم المباشر أثبتت بالممارسة أنها تهلكة للاقتصادات، ومضرّة للموازنات، ومناقضة للنموّ، أينما اعتُمدت وكيفما نُفذت، في لبنان أو غيره من دول العالم. وصحيح أن رفع الدعم عن الخبز لا يميت جوعاً، ورفعه عن البنزين لا يمنع انتقالاً، وعن المازوت لا يقفل مصنعاً، بيد أنه لا يقارن برفعه عن الدواء، الذي يميت الناس مرضاً، ويقتل الفقراء عجزاً، ويضيف فوق آلام العوز والبطالة والغلاء أوجاعاً، وسيقضي حتماً على مؤسّسة الضمان الاجتماعي، التي تبقى – رضينا أم لم نرضَ عن أدائها العام – مع “أترابها” من الأجهزة والتعاونيات الضامنة، أعرق المؤسّسات وأقدرها تاريخياً على إرساء الأمان الصحّي والإنساني للبنانيين. فهل في السلطة عقل يعي معنى الألم النفسي والجسدي، والموت البطيء لبعض المواطنين نتيجة تقنينهم تناول الدواء لغلائه، فيبادر الى شراء أوجاع الناس، ويرفع عنهم البلايا بدل الدعم… “أبغض الحلال”؟
تعرفة الضمان على حالها!
نتيجة الاتفاق الذي توصّل إليه وزير الصحّة الدكتور فراس أبيض ومصرف لبنان على توفير الدعم الجزئي للأدوية المزمنة وفق فئات ونسب متفاوتة، أصبحت أسعار هذه الأدوية خاضعة لبورصة سعر الصرف في السوق السوداء، تتغيّر كلما طرأ أيّ تعديل عليه. ووفق جداول الأدوية التي أدرجتها وزارة الصحّة على موقعها الإلكتروني، فإن الزيادات التي طرأت على الأسعار تتفاوت بين 11% و497%، فيما ارتفعت أسعار بعض الأدوية بنسبة 562%، وأخرى بنسبة 614%. ولكن في مقابل هذا الرفع الهستيري للأسعار، لم يبادر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى تعديل تعرفته للأدوية التي بقيت على حالها، وتالياً لن يكون في إمكان المريض المستفيد من الضمان استرداد 85% من قيمة فاتورته الدوائية كما جرت العادة، بل أقصى ما سيفيد منه، إذا ما اخذنا في الاعتبار الأسعار الجديدة، هو ما نسبته نحو 15% من السعر الحالي للدواء.
وإن كان بعض أعضاء مجلس إدارة الضمان يقرّون بأنه يُفترض بالصندوق أن يدفع للمضمون 85% من قيمة فاتورته الدوائية وإلّا فإنه يكون بذلك مخالفاً للقانون، يربط المدير العام للضمان محمد كركي تعديل التعرفة بتوافر التمويل اللازم لذلك. فالضمان، وفق ما يقول لـ”النهار”، غير قادر على “تعديل” لائحة أسعار الأدوية التي يغطيها، لغياب الاعتمادات والأموال، علماً بأن الصندوق يغطي نحو 400 مليار ليرة من تكاليف الأدوية للمرضى. ومع ارتفاع الأسعار نحو 6 أضعاف، سيكون عليه تأمين ما لا يقلّ عن 2600 مليار ليرة، وهو أمر شبه مستحيل.
والحالة عينها تنطبق على تعاونية موظفي الدولة، إذ تؤكّد مصادرها عدم إمكان تعديل لائحة أسعار الأدوية ما لم تتوافر الاعتمادات، إذ “لا فاتورة تقل عن مليون أو مليون ونصف مليون ليرة، وهذا أمر غير منصف خصوصاً أن 50% من الأجراء يقبضون أقل من مليون و100 ألف ليرة”.
تتلاحق الاجتماعات في الضمان بغية إيجاد حلول، وموضوع التمويل هو الموضوع الرئيسي. ولكن السؤال المعضلة هو من أين يمكن الحصول على الأموال لزيادة التعرفات؟ يلفت كركي الى أنه اقترح على المسؤولين المعنيّين زيادة تعرفات الضمان من خلال فرض زيادة على الاشتراكات التي يدفعها صاحب العمل والحكومة والموظف للصندوق. ولكن هذا الاقتراح رهن بنتائج لجنة المؤشر التي اجتمعت أمس، وأجّلت بتّ الموضوع الى الخميس المقبل لمعرفة ما إن كان أصحاب العمل سيدفعون الزيادات المفروضة على رواتب الأجراء المصرّح عنهم إلى جانب البحث في اقتراح رفع الاشتراكات.
وإن كانت مؤسسة الجيش ووزارة الصحّة تمكنتا من تأمين تمويل لفترة معينة بحيث رفع سقف تغطية الاستشفاء نحو 3 أضعاف ونصف، فإن الضمان يقف عاجزاً عن الإقدام على أيّ خطوة تتعلق بزيادة تعرفات المستشفيات أو الأدوية أو الأطبّاء قبل تأمين التمويل اللازم”، يقول كركي. ولا يقف الامر عند هذا الحد، فالصندوق أمام مشكلة المضيّ قدماً في تقديماته الصحية، حتى على التعرفات القديمة، إن لم تدفع الدولة المستحقات للضمان “علماً بأن وزير المال كان قد وعدنا بأنه سيدفع المرصود في موازنة 2021 للضمان، على أن يسدد نحو 350 مليار ليرة قبل نهاية العام من أصل 461 مليار ليرة مرصودة في الموازنة… حتى يكون في مقدورنا أقله الاستمرار بالتعرفات القديمة، والاستمرار في تقديماتنا الصحية. أما بقية الفروع أي التعويضات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة فلا خوف عليها، إذ ثمّة استدامة حتى نهاية 2065 على الأقل”، وفق ما يقول كركي.
ويتوقع كركي أن يبلغ إجمالي التقديمات الصحية في سنة 2022 نحو 1400 مليار ليرة، لكنه في المقابل يؤكد “إن لم يتمّ تأمين التمويل، فلن يكون الضمان قادراً على زيادة تعرفات الاطباء ولا المستشفيات ولا حتى تعديل تعرفات أسعار الادوية، وقال: “عندما رُفع الدعم عن نحو 1000 نوع دواء، أجرى الصندوق دراسة بيّنت أن الكلفة على الضمان ستكون بنحو 700 مليار ليرة، فكيف الحال مع الزيادات التي طرأت حالياً؟”.
وفي الانتظار، يؤكد كركي أن “الصندوق يدرس السبل لضبط الإنفاق، والفرصة متاحة حالياً لإجراء بعض الإصلاحات، وتالياً نفكّر جدياً في إزالة عدد من الأدوية عن لوائح الضمان، مثل أدوية وجع الرأس والمراهم وغيرها من الادوية التي ليست بحاجة الى وصفة طبّية، كما سنعمد الى اعتماد الأدوية الجنريك وأدوية الجنريك الاقل سعراً لتخفيف الكلفة، اضافة الى شراء الادوية المستعصية والسرطانية بالمشاركة مع وزارة الصحة والتعاونية، وهذا الامر سيكون موضوع متابعة من اللجان التي شُكلت من وزارة الصحة والجهات المعنيّة”.