مشهد العتمة الشاملة التي غرق فيها البلد يعكس بوضوح مستوى الانحطاط الذي وصلت اليه السلطة. وقبل ساعات من إطفاء كل معامل الانتاج، تحرّك وزير الطاقة وقرّر انّ الوقت حان لرفع تعرفة الكهرباء، تحاشياً للأسوا. فهل هناك أسوأ من هكذا قرارات لا تؤخذ سوى بسياسة العصا من دون الجزرة؟
منذ مطلع العام، كانت الصورة الكهربائية واضحة، ولا تحتاج الى اجتهادات. الدولة لم تعد قادرة على تمويل قطاع الطاقة، الذي كلّف الخزينة في فترات سابقة بين مليار ونصف وملياري دولار سنوياً. هذه الاموال لم تكن في حينه كافية لتأمين التيار 24 ساعة، وكانت برامج التقنين تتأرجح، لكنها لم تصل في أحسن الحالات الى اكثر من 12 أو 15 ساعة تغذية يومياً. وكانت تلك مرحلة الذروة. ولاحقاً، تم خفض ساعات التغذية، لتخفيف الكلفة على الخزينة، اذ انّ المعامل كانت قادرة على انتاج المزيد من الطاقة، لكنّ السلطة اختارت التقنين الطوعي غير المعلن، لتخفيف الكلفة.
بعد أزمة الانهيار، أصبح البلد في مكان آخر، ولم يمض وقت طويل قبل ان تكتشف السلطة انها اصبحت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من الكهرباء للناس. وكما يجري في الدول الفقيرة والتي ينهشها الفساد، تدخلت بعض الدول للمساعدة. وتمّت ترجمة هذه المساعدة على خطين. الخط الاول جاء من خلال اتفاقية توريد الفيول اويل العراقي الى لبنان، من خلال عقد مريح لبيروت، قضى بتسديد ثمن الفيول بواسطة خدمات متنوعة. أي على طريقة «حديد بقضامي». والخط الثاني تمثّل بتقديم الولايات المتحدة تسهيلات استثنائية، شجّعت من خلالها مصر والاردن على الانخراط مع لبنان في اتفاقية تزوّد من خلالها مصر لبنان بالغاز لتوليد الكهرباء في معامل دير عمار، ويزوّد الاردن لبنان بالكهرباء (استجرار). وتولى البنك الدولي دور الراعي للاتفاقيتين مع كل من مصر والاردن، ووافق ان يكون الكفيل المالي، والمموّل لهذه الصفقة ضمن شروط معروفة اعلنها منذ اليوم الاول. وكان من ضمن هذه الشروط، رفع تعرفة الكهرباء لضمان استعادة الدولة للاموال التي ستنفقها في انتاج الطاقة وبيعها، لتسديد القرض اولاً، وللتمكّن من الاستمرارية ثانيا.
ما جرى على الخطين اللذين تم اعتمادهما لانقاذ البلد من العتمة الشاملة، يعبّر بوضوح عن منسوب الاهمال والغباء وقلة الضمير السائد لدى السلطة بكل فروعها.
على خط الاتفاقية مع العراق، لم يتم تقديم فلس واحد مقابل الفيول، لا عبر خدمات طبية ولا عبر أي نوع آخر من انواع الخدمات التي وعد لبنان بتقديمها مقابل الفيول. وهذا ما يفسّر الاستهتار العراقي باستكمال تنفيذ الاتفاقية في الاشهر الاخيرة، حيث بدأت بغداد في خفض الكميات الشهرية التي يجري تسليمها للبنان. ولو سمع المسؤولون اللبنانيون ما كان يُقال في الشارع العراقي، واحيانا في الصحافة العراقية، وكذلك بين الجدران الاربعة من قبل المسؤولين العراقيين، لأدركوا كم شعر هؤلاء بالمرارة جرّاء التعاطي اللبناني السخيف معهم. وكأن السلطات اللبنانية تعتقد انها تتشاطَر على العراقيين في التهرّب من القيام بما ينصّ عليه الاتفاق من واجبات مطلوبة من لبنان. أما القول ان العراق وافقَ وجدّد الاتفاقية مع لبنان فهذا أمر مشكوك في نتائجه، ومن يطّلع على ردود الفعل في الشارع العراقي يدرك هذا الامر.
في الموازاة، لا تبدو حظوظ الاتفاقيتين مع مصر والاردن افضل بكثير. وقد حاولت السلطات اللبنانية التنصّل من مسؤوليتها عبر الايحاء بأن الولايات المتحدة تحاصر لبنان ولن تسمح له بالحصول على الكهرباء قبل انجاز ملف ترسيم الحدود البحرية.
في الواقع، ما جرى انّ البنك الدولي الذي كان ينتظر تلبية شروطه للافراج عن القرض وتمويل صفقة الغاز المصري والكهرباء الاردنية، فوجئ بأنّ السلطات اللبنانية عاجزة عن زيادة تعرفة الكهرباء بذريعة انّ الناس لا يتحملون هذه الزيادة. ومع حصول البنك الدولي على هذا الجواب، ولو بشكل غير رسمي، اقترح على السلطات اللبنانية ان تقدم له بديلاً من خلال دراسة موجزة توضح فيها كيف تتوقع انها ستسدّد القرض. وبعد فترة من المماطلة، تبلّغ البنك الدولي ان تأمين مثل هذه الدراسة متعذّر. عندها سأل اذا ما كانت العودة الى مسألة زيادة التعرفة ممكنة، وجاءه الجواب ايجاباً. لكن السلطات لم تتحرّك عملياً في هذا الاتجاه، وبقيت الامور معلّقة حتى آخر قطرة فيول عراقي. وعندما نفد الفيول بالكامل، وحلّت العتمة على البلد، استفاقت السلطة وقررت انه لا بد من زيادة التعرفة، مهما كانت المحاذير.
هل تعني استفاقة وزير الطاقة على حتمية رفع التعرفة انّ ملف الكهرباء سيشهد تحسناً في المرحلة المقبلة؟
ينبغي انتظار ردود الفعل، والطريقة التي سيتلقف فيها بقية المسؤولين هذا الخيار. لكن، وفي كل الاحوال، ليس بالتعرفة وحدها يُنقذ القطاع، لأن سرقة التيار والهدر الفني وغير الفني سيجعل الناس مُجبرين على دفع ثمن مُضاعف للطاقة. هذا، اذا اعتبرنا ان الطاقة تأمّنت. ففي ايام الخير، وقبل الانهيار، لم تتأمّن الكهرباء، فلماذا قد يتوقع اللبنانيون اليوم، وفي زمن الانهيار المالي والاخلاقي والافلاس على كل المستويات، الحصول على هذا الحق؟
المصدر : الجمهورية