كانت المملكة العربيّة السعوديّة من البلدان الداعمة لاستقلال لبنان العام 1943، وفي كلمة للملك عبد العزيز، قال فيها: «من مسّ لبنان فقد مسّ نجد». إلّا أنّ العلاقات بين المملكة العربيّة السعوديّة ولبنان أخذت طابعاً متغيراً منذ حرب لبنان بين الأعوام 1975-1990، فقد سعت المملكة خلال الحرب الى إيجاد حلٍّ سياسيٍّ لها، وذلك عبر مبادراتٍ عديدة، كان آخرها إتّفاق الطائف العام 1989.
من أبرز هذه المبادرات:
قمّة الرياض في العام 1976، التي نتج عنها تشكيل قوّات الردع العربيّة، التي أسهمت فيها السعوديّة ماديّاً وعسكريّاً. إلا انها أقدمت على سحب وحداتها العسكريّة العاملة ضمن «قوّات الردع العربيّة» من لبنان في العام 1979، تاركةً الساحة لسيطرة الجيش السوري بمفرده. وعملت المملكة خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 على تخفيف وطأة العدوان الإسرائيلي على لبنان. ومع تردّي الوضع الأمني في بيروت الغربيّة إثر «انتفاضة 6 شباط»، وكذلك تردّي العلاقات الإيرانيّة – السعوديّة بسبب الحرب العراقية – الإيرانية، وتصاعد دور المملكة في لبنان، تعرّضت القنصليّة السعوديّة في بيروت لإعتداءٍ العام 1984، ما أدى الى سحب موظّفيها من لبنان، واتهم حلفاء ايران في لبنان بالوقوف وراء هذه الاعتداءات، كما في السياق ذاته وُضعت عبوةً ناسفةً أمام السفارة السعوديّة في بيروت مطلع العام 1990، وها نحن نشهد مؤخراً تعرض السفارة السعودية في بيروت للتهديد(2022). لم تنجح مبادرات المملكة العربيّة السعوديّة بين الأعوام 1978 و1984 في إنهاء الأزمة اللبنانيّة، بسبب تحكّم النظام السوري بالساحة اللبنانيّة. ولم ينهِ «مؤتمر بيت الدين» الذي تمّ برعايتها في العام 1978 الصراع الداخلي، كما لم تؤدِّ دبلوماسيّتها خلال مرحلة «اتّفاق 17 أيّار 1983» إلى انسحاب الجيوش الأجنبيّة من البلاد، فقد رفضت المملكة الاتّفاق بين لبنان وإسرائيل، لما له من تداعياتٍ سلبيّةٍ على العلاقات بين أطراف الأزمة، ولرفض دمشق له. كذلك، لم تؤدِّ رعاية السعوديّة لمؤتمرَي جنيف ولوزان بين العامَين 1983 و1984 إلى حلٍّ للأزمة اللبنانيّة.
تميّزت علاقات السعوديّة بلبنان بين الأعوام 1992 و2004 بطابعٍ خاصّ وذلك خلال تولّي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانيّة حيث كانت تربطه علاقة مميّزة بالمملكة العربيّة السعوديّة، فقد تولى الرئيس رفيق الحريري الشق الإقتصادي بدعم سعودي، أما الناحية السياسية والأمنية فقد سلمت لسوريا وحلفائها في لبنان، بشكلٍ عام كان التوجّه السعودي خلال تلك المرحلة على تنسيق مع النظام السوري. إلا أنّ إغتيال رفيق الحريري، بتاريخ 14 شباط 2005، أدّى إلى توجيه السعوديّة أصابع الاتّهام إلى النظام السوري، وطالبت بالخروج السوري من لبنان. فدعمت المملكة نجل الرئيس رفيق الحريري، سعد الحريري، بهدف منع حصول فراغٍ في الساحة السُنّيّة، وعملت على التصدّي لتنامي نفوذ إيران، وقيام «حزب الله» بملء الفراغ العسكري والسياسي الناتج عن الانسحاب السوري من لبنان منذ نيسان 2005.
وبعد العام 2008، بدأت الاستثمارات السعوديّة تتراجع في لبنان، ومع اندلاع الثورة في سوريا العام 2011 تلاشت تلك الاستثمارات بشكلٍ كبير. بعد أحداث أيّار من العام 2008، تمكّن «حزب الله» بقوّته العسكريّة من السيطرة على مراكز القرار في الدولة. وبالمقابل، دعمت المملكة «قوى 14 آذار» وشجّعت على الدخول في «اتّفاق الدوحة»، الذي غيّر المعادلة في لبنان لصالح سوريا وإيران وحلفائهما. فتسبّب هذا القرار بتراجع لنفوذ «قوى 14 آذار» لصالح «قوى 8 آذار». إذاً، فقد اعتُبر «اتّفاق الدوحة» انتكاسةً للدبلوماسيّة السعوديّة.
ومنذ ذلك الحين، أصبح على المملكة أن تراعي إيران، وأن تتواصل معها في ما يتعلّق بأزمات لبنان في بعض الأحيان، وأن تأخذ في الاعتبار الدور السوري المستجدّ على الساحة اللبنانيّة، وأن تتصالح معها في قمّة الكويت الاقتصاديّة العام 2009، والتنسيق معها بالنسبة إلى لبنان، في ما سُمّي بمعادلة «السعوديّة – سوريا» (السين- سين). لكنّ هذه المعادلة وصلت إلى طريقٍ مسدود، وبالتالي أدى ذلك إلى انسحاب السعوديّة من عمليّة التسويات في لبنان وإنهاء التنسيق مع سوريا في شهر كانون الثاني 2011، عقب إسقاط سوريا وإيران و»حزب الله» حكومة الرئيس سعد الحريري. وتصاعد التوتّر في ظلّ الحكومة التي سمح «حزب الله» بتشكيلها برئاسة نجيب ميقاتي، على خلفيّة إطاحة الحزب بالتزاماته في «اتّفاق الدوحة»، ثمّ المحاربة في سوريا إلى جانب النظام السوري. كما ألغت السعوديّة، في شباط 2016، عقد تسليحٍ فرنسيٍّ للجيش اللبناني كانت ستتكفّل بتسديد قيمته البالغة 3 مليارات دولار، معتبرةً أن ثمّة خطراً من ذهاب أسلحة الجيش إلى «حزب الله». وأتبعت الرياض الإجراء المذكور بتصعيدٍ جعلها تُصنِّف حزب الله «منظّمةً إرهابيّة».
ومع انفجار الأوضاع في اليمن بدعمٍ إيراني، وردِّ الرياض عسكريّاً عبر «عاصفة الحزم»، تبَدَّلَ سُلَّم أولويّات المملكة العربيّة السعوديّة، وبدأ تركيزها ينصبُّ بشكلٍ خاصٍّ على حدودها وعلى داخلها. مع تعاظم دور «حزب الله»، اتّهمت السعوديّة المسؤولين اللبنانيّين، وخاصّةً حلفاءها، وفي مقدّمهم رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، بعدم تصدّيهم لهذا الدور.
في ذلك الحين ساهمت عدّة معطياتٍ بانسحاب المملكة العربيّة السعوديّة من لبنان، وفقدان الدعم للسُّنّة، فقد تسبّبت التسوية الرئاسيّة في العام 2016، وربط النزاع مع الحزب حول سلاحه، وتقديم التنازلات السياسيّة مع التيّار الوطني الحرّ والتسويات السياسيّة لاحقاً، بنكسةٍ لعلاقات الحريري مع المملكة، وتقديم استقالته في العام 2017 من رئاسة الحكومة في الرياض، ما أثار الكثير من اللغط حولها، ومن ثمّ التراجع عنها عند عودته الى لبنان، ما أعتبر موقفاً سلبياً من قبل الحريري تجاه المملكة. وإنّ الدعم الذي كانت توفّره لسعد الحريري و»تيّار المستقبل» لم يعُد ضمن حساباتها. وقد انعكس الأمر سلبيّاً على زعامة الحريري، وصولاً إلى انكفائه عن الحياة السياسيّة اللبنانيّة وعدم خوضه الانتخابات النيابيّة الأخيرة هو وتيّاره السياسي. فيما كان على السياسة السعودية ان لا تترك الساحة السنيّة بحالة فراغ وضعف، بل كان عليها ان تعيد احتضان تيار المستقبل بقيادات جديدة، كي لا تخرج الساحة السنية من المعادلة السياسيّة اللبنانية، تمهيداً لإستقطابها من قبل جهات أخرى. وفي 9 تشرين الثاني 2017، دعت السعوديّة مواطنيها إلى مغادرة لبنان وعدم السفر إليه. كما أقدمت في نيسان 2021، على وقف كلّ الواردات اللبنانيّة إليها، بعد أن تكثّفت محاولات تهريب المخدّرات إليها، واتّهم الإعلام السعودي «حزب الله» بالوقوف وراء هذه المحاولات. كما تتّهم السعوديّة «حزب الله» بمساعدة الحوثيّين عسكريّاً في اليمن. ولكنّ وزارة الخارجية السعودية أعلنت في نيسان 2022 عودة سفيرها إلى لبنان، في إشارةٍ إلى انتهاء الأزمة التي اندلعت على خلفيّة تصريحات وزير الإعلام اللبناني السابق جورج قرداحي حول الحرب في اليمن وإعتبارها «حرباً عبثيّة» يجب أن تتوقّف، دفعت السعوديّة حينها إلى اتّخاذ إجراءاتٍ رأى فيها كثيرون أنّها لا تتناسب مع حجم المشكلة.
في ظلّ تراجع دور المملكة العربيّة السعوديّة في لبنان وانكفائها إلى حدٍّ كبيرٍ (2021)، إلّا أنّها عادت بخجلٍ عشيّة الانتخابات النيابيّة في أيّار 2022، ومن خلال الصندوق السعودي – الفرنسي. ونشهد مؤخّراً تقارباً سعوديّاً – إيرانيّاً فتح باب المفاوضات بين الطرفين من أجل إعادة العلاقات الديبلوماسيّة بين البلدين التي كانت قد انقطعت العام 2016، فهل ستنعكس نتائج التقارب على لبنان؟
لأنّ الطبيعة لا تحبّ الفراغ، لذلك فإنّ الانسحاب السعودي، والتردّد في وضع الاستراتيجيّات في هذه المرحلة التاريخيّة الدقيقة، سوف يؤدّيان إلى تعبئة الساحة السياسيّة من قبل أطرافٍ أخرى. ومن المرجّح – بالنظر إلى المسار السياسي والديبلوماسي القطري – أنّ قطر سوف تملأ الفراغ. وقد بدأ ذلك بالإشارة إلى عدّة معطياتٍ مهمّةٍ منها: دفع رواتب المشايخ في دار الفتوى في الجمهوريّة اللبنانيّة، وكذلك دعم الجيش اللبناني.
فقد تميزت الديبلوماسيّة السعودية تاريخياً في لبنان بسياسة المهادنة والتسويات والتخلي عن المواجهة، ما أدى الى تآكل دورها تدريجياً لصالح بلدان أخرى.
وفي المستقبل، إمّا أنّ السعوديّة تعود وتأخذ مكانها ودورها التاريخي، أو أنّ قطر وتركيا وبلدان أخرى وابرزها إيران سوف تتقاسم نفوذها، وبالطبع بمسار سياسي مختلف عنها.
المصدر :نداء الوطن