ليست قضية سرقة أتعاب جملة من الأطباء، معزولة عن الآلية التي تسير وفقها إدارات الدولة والمؤسسات الخاصة، وتحديداً المصارف والمستشفيات، والتي لها اتّصال بشكل او بآخر بتلك الإدارات. ولا تخلو العلاقة بين هذا الثلاثي (الدولة-المصارف-المستشفيات) من “تركيب الطرابيش” التي يدفع ثمنها الحلقة الأضعف، وهو في الغالب المريض، ومن ثمّ الطبيب، حسب نوع الطربوش. وتعزّز المسارات الغامضة التي تسلكها أتعاب الأطباء، في حرمانهم من مستحقاتهم.
الأطباء ضحية
هذه المرة لم يكن المريض هو ضحية الثلاثي، بل الطبيب. إذ تعرّض عدد كبير من الأطباء لعملية استغلال أدّت إلى حرمانهم من كامل أو بعض أتعابهم، التي من المفترض الحصول عليها من وزارة الصحة عن طريق وزارة المالية، مروراً بمصرف لبنان ثم المصارف التجارية، وصولاً إلى الأطباء. وبنتيجة التحقيقات، جرى اتهام ثلاثة أشخاص، إحداهنّ الموظفة في وزارة المالية “ش. ظ”، التي أصدر بحقّها القاضي شربل أبو سمرا، مذكرة توقيف وجاهية.
ومع مرور نحو أسبوع على تفاعل هذه القضية، ونحو يومين على القرار القضائي، إلاّ أن الغموض والتكهّنات هما أكثر ما تتّصف به القضية، وفق ما تقوله مصادر في وزارة المالية في حديث لـ”المدن”. وتوضح المصادر أن عملية الاستغلال “لم تجرِ بشكل مباشر عبر وزارة المالية. والموظفة المذكورة ليست هي من يصدر جداول أسماء الأطباء ويحوّل مستحقاتهم، وبالتالي، لا علاقة لوزارة المالية في هذه القضية”. وتشير إلى أن المتّهمين في هذا الملف “استغلّوا الفوضى في البلد، والتي تفاقمت منذ العام 2019 حتى الآن، وعزّزتها الإجراءات التعسفية للمصارف والمستشفيات”. وفي النتيجة، حُرِمَ الكثير من الأطباء أتعابهم التي من المفترض بهم تحصيلها، بدل خدمة طبية تعهّدت المستشفيات والجهات الضامنة ووزارة الصحة تغطية نفقتها.
وتشرح المصادر أن العملية التقنية لإيصال أتعاب الأطباء من وزارة الصحة، تمرّ عبر لجان أطباء وصناديق، ثمّ تُحَوَّل إلى مصرف لبنان، الذي بدوره يحوّلها إلى حسابات الأطباء في المصارف.
أطباء المناطق
الخداع لم يطل جميع الأطباء، بل تركَّزَ بين أطباء المناطق أو الأطراف وليس المدن، وخصوصاً في الجنوب والبقاع، يقول نقيب الأطباء السابق شرف أبو شرف لـ”المدن”. ولأنه عايشَ عملية امتعاض أطباء تأخّرت أتعابهم أو وصلت “مع حسومات بين 25 و50 بالمئة”، فهو الأخبر بالتفاصيل.
يؤكّد أبو شرف أن الثغرات الموجودة في آلية إيصال أتعاب الأطباء، بالإضافة إلى نفوذ المستشفيات والمصارف على تلك الأتعاب، ساعدت على خداع الأطباء واستغلالهم. وحسب النقيب السابق “خاف الأطباء من تقديم شكاوى خطية تبيّن تقاضيهم أتعابهم غير كاملة. فبعض المسؤولين عن الشؤون المالية في المستشفيات، لديهم النفوذ الكافي لطرد هؤلاء الأطباء”. أما في ما يتعلّق بالمصارف، فتنوّعت ردود الفعل بين “مصارف دفعت الأتعاب كاملة، وأخرى جزئياً بذريعة عدم وجود أموال كافية. لكن النقابة تواصلت مع المصارف وتجاوب عدد كبير منها، ليتبيّن لاحقاً أن الأزمة ممتدّة إلى مكان آخر”.
سطوة المستشفيات وتفلّت المصارف من أي قيود وغياب الدولة، شجّع شبكة من الأشخاص لديهم طريقة للدخول على خط سير الأموال، ومن بينهم أحد المنتدبين من نقابة الأطباء إلى وزارة الصحة، على استغلال ضعف الرقابة واشتداد أزمة البلاد وحاجة الأطباء لأتعابهم بعد تراجع قيمتها الشرائية، فعمدّ هؤلاء الأشخاص إلى “وضع الأطباء بين خيارين، إما البقاء تحت رحمة المستشفيات والمصارف لقبض الأتعاب، أو قبضها منقوصة من الشبكة التي تتولى لاحقاً تحصيلها بطريقتها”. ويرى أبو شرف أنه “لو كان هناك انتظام وشفافية في إيصال الأتعاب إلى الأطباء، لما وافق أحدهم على قبول أتعابه منقوصة وبصورة ملتوية عبر وسطاء غير قانونيين”.
المستشفيات أقوى
ليست صدفة أن لا تقع المستشفيات ضحية لتلك الشبكة، مع أن لديها مستحقات كالأطباء، تصل من الجهات الضامنة ووزارة الصحة. لكن ما يحميها، هو عدم مرور أتعابها بلجان وإدارات وصناديق متعدّدة، بل تذهب من وزارة المالية إلى مصرف لبنان، ثم إلى حسابات المستشفيات في المصارف الخاصة. وتؤكّد مصادر في نقابة أصحاب المستشفيات أن “لا علاقة للمستشفيات بتلك الشبكة ولا تعامل معها ولا أموال مرّت عبرها تخصّ المستشفيات”. وتلفت النظر في حديث لـ”المدن”، إلى أن أي مستحقات للمستشفيات “يظهر لاحقاً اختفاؤها عبر هذه الشبكة، لا علاقة للمستشفيات بها، وتحتفظ المستشفيات بحقّها في تلك الأموال لدى وزارة الصحة والجهات الأخرى”.
رغم احتفاظ القضاء بتفاصيل الملف، إلاّ أن ما يرشح من معلومات، يفيد بعدم وجود خلل في التحويلات من وزارة المالية. فتَعْلَق العجلة إذاً في زواريب اللجان والصناديق وأصحاب النفوذ، وهنا، ليس مستبعداً ظهور تورّط موظفين ومدراء في المستشفيات، قد يكشف عنهم التحقيق أو يبقيهم خلف الأضواء. كما لا يمكن إنكار تأثير موافقة بعض الأطباء على الانتقاص من أتعابهم، في تغذية تلك الشبكة. مع أن الموافقة لا تبرّر الاستغلال والتلاعب بالحقوق.
المصدر : المدن