منذ نهاية الحرب الأهليّة، استطاعت غالبية القطاعات أن تتقدّم بشكل أو بآخر، إلا قطاع الكهرباء الذي أُهمل وحُجب عنه الاستثمار. وفي هذا السياق كانت أسعار النفط ترتفع مقابل استقرار تعرفة المبيع المحلية، فأنتج ذلك زيادة العجز المالي في ميزانية مؤسّسة كهرباء لبنان التي أصبحت أمام خيارين: زيادة التعرفة، أو اعتبار هذا العجز الهائل الناتج من الفرق بين كلفة إنتاج الكيلواط /ساعة وسعر مبيعه للمشتركين، هو دعم تموّله الدولة من خلال تحويلات مالية سنوية. وبمعزل عن الآلية القانونية لانتقال المال من الخزينة إلى المؤسسة، والتوصيف الذي أُطلق على هذه التحويلات، إلا أنها كانت عبارة عن دعم مباشر وشامل لكل فواتير الكهرباء في لبنان.
بهذا المعنى، إن كلفة الدعم، هي الخسائر التي استنزفت سنوياً نحو 8% من إيرادات الخزينة. وقد استمرّ هذا الدعم لغاية الانهيار النقدي قبل نحو ثلاث سنوات حين «أفلست» الخزينة بعد انهيار كبير في قيمة الليرة. وبذلك، سقطت كل الاعتمادات المالية والسقوف والتحويلات في الهوّة ذاتها، إذ إن قيمة التحويلات من الخزينة لمؤسّسة كهرباء لبنان لم تعد تغطّي الفرق في كلفة الإنتاج وسعر المبيع. فعلى سبيل المثال، إن استيراد المازوت بقيمة مليار دولار كان يتطلب تحويلات من الخزينة بقيمة تساوي 1500 مليار ليرة، إنما اليوم صارت قيمة هذا التحويل تساوي 51 ألف مليار ليرة على سعر صرف يبلغ 34 ألف ليرة، أي أكثر من مجموع المبالغ الملحوظة في مشروع موازنة 2022.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
عملياً، كان مصرف لبنان يأخذ الـ1500 مليار ليرة، ويحوّلها إلى دولارات لتسديد ثمن الفيول والمازوت المستوردين. وكان يقوم بذلك طيلة سنوات تثبيت سعر الصرف بين عامَي 1994 و 2019، إنما في عام 2020 توقف عن سياسة التثبيت واتّبع سياسة إفلات سعر الصرف باعتبار أن سعر الصرف يفرض ضريبة كبيرة تكبح الاستهلاك وتخفف الطلب على الدولار في السوق. إنما بنتيجة هذه السياسة لم يعد تمويل عجز الكهرباء من الخزينة وفق المبالغ السابقة، ذو معنى، بل أدّى ذلك إلى انخفاض تعرفة مبيع الكيلواط/ ساعة المنتجة لدى مؤسسة كهرباء لبنان إلى أقل من سنت واحد، ما أدّى إلى زيادة الخسائر بشكل كبير ترجمت بشكل مباشر في إقفال معامل الإنتاج باستثناء بعض الوحدات التي يتم تشغيلها على الفيول العراقي الذي ينتج نحو ساعتين من التيار الكهربائي يومياً كحدّ أقصى.
كانت الخسائر التي تتحملها الخزينة تأتي من قناتين:
– الفرق بين كلفة الإنتاج الفعليّة، وسعر مبيع الكيلواط/ ساعة الذي لم يتغيّر منذ مطلع التسعينيات، إذ كان يحتسب بين 8 سنتات و9.5 سنت لكل كيلواط ساعة، علماً بأن كلفة الإنتاج بلغت في عام 2018 مستوى مرتفعاً بقيمة 20 سنتاً لكل كيلواط/ ساعة.
– من خلال الخسائر التقنية وغير التقنية لشركة الكهرباء والتي أهدرت أكثر من 40% من الإنتاج. الخسائر التقنية، هي خسائر في التيار الكهربائي ناتجة من الشبكة بحدّ ذاتها ولا بد من أن تتحمّلها أي شبكة نقل كهرباء. أما الخسائر غير التقنية، فهي عبارة عن تعديات على الشبكة وسرقة موصوفة للتيار الكهربائي مباشرة منها.
أما بعد الأزمة، فقد تُرك الأمر بيد المولدات الخاصة، وهي عبارة عن قطاع غير شرعي وهو منظّم على طريقة التقسيم الطائفي والمناطقي والحزبي والعشائري أيضاً، للأحياء في كل لبنان. كان هذا القطاع صورة مصغّرة عن النسخة السياسية الحاكمة، إنما كانت نسخة أكثر وضوحاً وواقعية، عن قطاع احتكاري غير شرعي وغير منظّم ولا يبغي سوى الربح الفاحش المحمي من أزلام النخب الحاكمة. فجأة أصبح هذا القطاع مسؤولاً عن التغذية بالتيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة يومياً. لهذا، كان يحتاج إلى المازوت. ومنذ أيلول 2019 لغاية صيف 2021، كان المازوت المستورد مموّلاً بدولارات من مصرف لبنان على سعر صرف يبلغ 1520 ليرة. إنما بعد ذلك، أصبح سعر المازوت بالدولار السوقي، وبات سعره يرتفع تدريجاً من 10 آلاف ليرة مقابل الدولار إلى 15 ألفاً، ثم 20 ألفاً و25 ألفاً، إلى أن بلغ أخيراً سعر الدولار 35 ألف ليرة.
هكذا انتقلت الخسائر/ العجز الناتج من دعم التعرفة، من الخزينة، إلى الأسر والمؤسسات وسائر المقيمين على الأراضي اللبنانية. وانتقال إنتاج الكهرباء من المعامل الحراريّة إلى المولدات الخاصّة يعني استهلاكاً أكبر للوقود (المولدات الصغيرة تستهلك كمية أكبر من المحروقات لإنتاج كمية كهرباء أقلّ) من أبرز نتائجه الفرق الكبير في سعر الكيلواط/ ساعة الذي تنتجه المولدات بقيمة تتجاوز 40 سنتاً للكيلواط/ ساعة مقارنة مع التعرفة الحالية، أو مع التعرفة المقترحة والمقدّرة بنحو 27 سنتاً للكيلواط/ ساعة.
إذاً، الأسر والمؤسسات صارت تتحمّل كلفة التغذية المرتفعة بالكهرباء، بالإضافة إلى كلفة تراجع قيمة الليرة وتضخّم الأسعار، ما ينعكس مباشرة ارتفاعاً في كلفة الإنتاج ما يخفض القدرة التنافسيّة محلياً وخارجياً.