بشكلٍ عام، أي حديث عن الموازنة يجب أن يبدأ بالإجابة على الآتي: أي اقتصاد نريد للبنان؟ ما هي الأولويات ضمن المدى المتوسط والقصير، أي خلال السنوات الثلاث المقبلة التي يفترض أن تسمّى مرحلة التصحيح؟ ففي هذه المرحلة، لا يمكن أن يكون الإنفاق عشوائياً واستنسابياً، بل يجب أن يكون مخططاً له وفق منهجية واضحة يكون فيها ترتيباً للأولويات. وهذه الأولويات تصبح أساساً لإعداد موازنة تتوافق مع أهداف محدّدة مسبقاً. فعلى سبيل المثال، يجب أن تكون إدارة السنوات الثلاث، مبنيّة على تشخيصٍ معيّن لواقع سوق العمل في لبنان، وعلى أساسه يتم تحديد القطاعات التي تحتلّ أولوية لدى الدولة.
في هذا السياق، هناك ثلاثة مساراتٍ، وليست جميعها جيدة:
– إذا كانت السلطة تريد الحفاظ على «الستاتيكو» الراهن، لجهة إعادة إحياء نموذج الاقتصاد السياسي الذي كان سائداً، فهي تحتاج إلى تصوّر معيّن في الموازنة يُترجم هذه الرغبة ويحسّن هذا النموذج.
– إذا أرادت السلطة التوجّه نحو تغيير بنيوي في شكل الاقتصاد، والاهتمام بقطاعاتٍ متنوعة ومختلفة، فإنها تحتاج إلى رصد موارد لها وأن ترسم تصوّراً واضحاً للإنفاق من الموازنة في الاتجاه الذي تسعى إليه.
– إذا قررت السلطة «إدارة الرداءة»، فهذا خيار على قاعدة «العمل بما موجود». فعلى سبيل المثال، الاعتراف بواقعٍ يشير إلى أن غالبية اليد العاملة في لبنان هي «غير ماهرة» وأن الأولويات والإنفاق الاستثماري يتم تحديده على هذا الأساس لتأهيل قطاعات تستوعب عدداً كبيراً من اليد العاملة غير الماهرة التي لا تتقاضى رواتب مرتفعة، ما يفرض أن يكون سعر الصرف منخفضاً (ليرة بقيمة منخفضة)، وإنفاقاً اجتماعياً أكبر لتغطية حاجات الأسر التي فيها الكثير من اليد العاملة غير الماهرة.
كل سيناريو من السيناريوهات الثلاثة، يتطلّب أولويات مختلفة في الإنفاق، وبالتالي موازنة مختلفة. غير أنه هناك مشكلة من نوع آخر في موازنة 2022 المطروحة، إذ أنها تسعى للحفاظ على الستاتيكو القائم، إنما بلا أي أفق. وكأنما أُعدّ مشروع الموازنة من دون أن يطرح معدّوه السؤال الآتي على أنفسهم: ما هو شكل ومضمون المرحلة المستهدفة؟ كيف أديرها؟ ما المقصود بالـ«ستاتيكو»؟ هل هذا هو الهدف، أم أنه مجرّد مرحلة للانتقال نحو بنية جديدة؟ هل المقصود بالـ«ستاتيكو»، أن يصار إلى «إدارة الرداءة» بلا أفق؟ هل المقصود تحسين بنية النموذج القائم؟
من الواضح أن سيناريو «إدارة الرداءة» هو الأكثر تفضيلاً للقوى السياسية. فهم كانوا يديرون البلاد بهذه العقلية طوال العقود الماضية، وما زالوا لغاية اليوم، يحملون العقل نفسه الساعي بعبثية إلى التعامل مع النتائج فقط. وبهذا المعنى، فإن المقصود بـ«إدارة الرداءة» هو أن الدعوات التي أطلقتها جهات عدّة من المدرسة النيوليبرالية تهدف إلى تحسين نموذج الاقتصاد السياسي الذي انهار، باعتباره صالحاً للحكم بعد تنقيته من الشوائب، لم تكن مقبولة من قوى السلطة. لذا، قد تبدو العبثية توصيفاً غير مطابق للحقيقة البشعة، لأن كل ما يقومون به هو إعداد موازنة مقبولة شكلاً من صندوق النقد الدولي بمضمون وهميٌ. يقول أصحاب فكرة «التحسين» أن الموازنة يجب أن تكون مدخلاً لتحسين النموذج الاقتصادي القائم (المنهار) انطلاقاً من إجراء إصلاحات مالية وتعديلات في بنية بعض القوانين تتيح الشفافية والحوكمة والمنافسة… لكن من النادر أن تظهر دعوات تطلب أن تكون الموازنة عبارة عن مسار نحو تغيير جذري في كل بنيان الاقتصاد السياسي. قناعتي أننا بحاجة إلى تغيير جذري كهذا، لكن واقعاً، فإن أي بنيان جديد للبنان، سيكون ضمن أطر رأسمالية، وذلك ليس حباً بهذه الأطر، إنما بسبب صغر حجم اقتصاد لبنان ضمن الفلك الرأسمالي، وهذا ما يجعله عاجزاً عن الانتقال خارج هذا الإطار، لأنه لن يكون قادراً على تحقيق مستوى عالٍ من الاكتفاء الذاتي بسبب صغره وشحّ الموارد. هذا هو السبب للاتجاه نحو الطريق الأقل سوءاً، والبحث عن تحقيق الميزات التفاضلية في الاقتصاد.
ليست المشكلة بهذه البساطة، إذ إن الخيارات المتاحة تأخذ هذه التعديلات نحو ميزان أكثر دقّة وحساسية: هل يمكن القيام بهذا التحسين، أي القبول بما يعدّ الأقل سوءاً، من خلال مرحلة إدارة الرداءة التي تطبّقها قوى السلطة حالياً؟
لنفرض جدلاً أن غالبية اليد العاملة، أو ما بين 40% و50% منها، هي يد عاملة «غير ماهرة» وذلك خلافاً لأسطورة الفرادة اللبنانية التي سقطت. هنا يصبح السؤال المتوجب طرحه: أين ستذهب الموارد في السنوات الثلاث الأول، أي ضمن المدى القصير والمتوسط؟ هل ستصبّ في اتجاه تمويل تسهيلات ائتمانية في خدمة قطاعات تعتمد على اليد العاملة هذه؟ أم أنها ستخصّص في اتجاه آخر؟ وبما أن هذا النوع من اليد العاملة مداخيلها منخفضة، يُفترض منحها تأمينات اجتماعية أفضل. هل ستنفق الموازنة على هذه التأمينات الاجتماعية، أم ستوجّه مواردها في اتجاه آخر؟
فإذا كنّا غير قادرين على الانتقال مباشرة من الانهيار إلى نموذج جديد، يمكن على الأقل القيام بترقيع النموذج القديم بطريقة هادفة تكون بمثابة فترة انتقالية نحو النموذج الجديد، ولو أتى الأمر على حساب إطالة أمد الأزمة وأوجاع الناس. فالترقيع الهادف، ضمن الخيار المتاح لليد العاملة في لبنان، مثلاً – أي أنها بجزء أساسي هي يد عاملة غير ماهرة – هو خيار يفترض أنه في المرحلة الأولى لا تملك الدولة ترف العمل بقطاعات جديدة مختلفة، وبالتالي عليها الاعتماد على ما لديها من يد عاملة وخلق «ستوك» من رأس المال أو الموارد، ليتاح بعد 3 سنوات أو 4 سنوات، إعادة توجيه هذه اليد العاملة إلى قطاعات مختلفة. وذلك يتطلب تدريب هذه العمالة، والإصرار على كبح العجز وتحقيق فائض أوّلي وتراكمه في الخزينة… بمعنى آخر، إذا أردنا الترقيع فعلينا القيام بذلك بأفضل طريقة ممكنة ضمن أولويات استراتيجية وسط غياب الحلول الجذرية. حتى في مرحلة «إدارة الرداءة» لا يمكن استخدام الموارد من دون حدّ أدنى من الاستقرار في النظام الرأسمالي الذي يتطلب وجود مصارف وسياسة نقدية واضحة.
ومهما كان السيناريو الذي ستعتمده السلطة، فإن إدارة الرداءة بمعناها القائم، أو إحياء النموذج المنهار بعد تحسينه، أو الذهاب إلى نموذج جذري سريعاً… فإنه مع كل هذه الأهداف، هناك حاجة قائمة لهيكلة القطاع المصرفي وتوزيع الخسائر. فمن الواضح أنه في حال أرادت السلطة تعويم النمط الاقتصادي القديم الذي يعتمد على تدفقات رؤوس الأموال المالية إلى القطاع المصرفي، لن تحصل مثل هذه التدفقات نحو قطاع لديه هذا الكمّ من الخسائر. وأصحاب الرساميل حول العالم لن يصدقوا طروح إطفاء الخسائر عبر أدوات مثل «الصندوق السيادي». رأس المال يدرك أنه غير قادر على تغطية الخسائر. وبالتالي طالما أن موازنات المصارف ركيكة، لن تتدفق الرساميل إلى المصارف.
إذا كنّا غير قادرين على الانتقال إلى نموذج جديد يمكن على الأقل ترقيع النموذج القديم بطريقة هادفة
كما أنه في مرحلة الرداءة أيضاً، هناك حاجة لتدفق رؤوس الأموال من أجل استخدامها بشكلٍ هادف لـ«إدارة الرداءة». كما أنه في مرحلة الانتقال الجذري تبرز الحاجة إلى موارد مالية وقطاع مصرفي نظيف.
في المقابل، يمكن أن يتغيّر سعر الصرف في السيناريوهات الثلاثة. ففي سيناريو إدارة الرداءة، يُفترض تثبيت سعر الصرف ضمن الحدود الاقتصادية المتاحة ولو بهوامش محدودة مقارنة مع ما يجب أن يكون عليه في سيناريو الانتقال الجذري. ففي مرحلة «إدارة الرداءة» سيكون هناك إنفاق على قطاعات بغية تطوير مهارات على مستوى العمالة، وبالتالي نحن مجبرون على تأمين نوع من الاستقرار. في كل السيناريوهات يتوجب تأمين استقرار في سعر الصرف ضمن هوامش معقولة. كل سيناريو يبدأ بسعر صرف مختلف وبهوامش تقلبات مختلفة. أي سيناريو أفضل من إدارة الرداءة بلا أهداف. عملياً، يتم التركيز على الترقيع فقط، إنما من دون تصوّر واضح لشكل هذا الترقيع والتشوّهات التي يخلقها في الاقتصاد والمجتمع، ومن دون أي أهداف أبداً.
الأخبار