قدرُ اللبنانيين أن يعيشوا في ظل حكومة تفكر كأنها باقية أبداً، وتتخذ قراراتها كأنها راحلة غداً. مآل الكلام اعلان وزارة المال تعديل سعر الصرف الرسمي للدولار الاميركي الى 15 ألف ليرة بالاتفاق مع مصرف لبنان من دون الالتفات الى تداعياته السلبية على بعض أوجه الحياة المالية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. إذ باستثناء تسريب خجول مفاده أن القروض السكنية لن تكون مشمولة بهذا التعديل، فإن عقوداً كثيرة بالدولار الاميركي تستدعي توضيح كيفية التعامل معها، وخصوصا العقود ذات الابعاد الاجتماعية والانسانية. وفي انتظار ان يخرج المجلس المركزي لمصرف لبنان بتأكيد السير في هذا القرار، يترقب اللبنانيون بإرباك شديد الحالات التي ستستثنيها الدولة من مفاعيل تطبيق هذا القرار. فمن المعروف ان القانون اللبناني لم يكن يمنع توقيع عقود بالدولار الاميركي بين المواطنين أو الشركات والمؤسسات أو مع الدولة، لذا تُطرح اسئلة كثيرة في شأن مصير عقود ايجارات السكن الموقّعة بالدولار والتي ستتضاعف 10 مرات بالليرة اللبنانية بما سيهدد بحصول أزمة اجتماعية أخرى تطاول المستأجرين والمالكين على حد سواء. وكذلك يسري هذا التساؤل على مصير ايجارات مباني المؤسسات الخاصة التي ستتضاعف ايضا في ظل جمود اقتصادي قاتل ونمو ضعيف يعانيه القطاع الاقتصادي. ولا تتوقف الاسئلة عن مصير عقود ايجارات المقار الرسمية والمؤسسات العامة وعقود النفايات التي تبلغ مئات ملايين الدولارات في معظم بلديات لبنان. يضاف الى كل ذلك اسئلة عن مصير الرواتب والاجور الموقعة بالدولار الاميركي، ناهيك عن أموال المودعين.
المتخصص في اجهزة الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة اليها باسكال ضاهر، أوضح ان “سعر الصرف، وبخلاف بيان وزير المال، لم يحدَّد في الموازنة على الإطلاق، بل جرى تحديد “هرطقة” ما يسمى دولارا جمركيا. كما أنه وفقا لأحكام المادة الرقم 229 نقد وتسليف، فان سعر الصرف يجب ان يُقر بقانون مرن يعطي لهيئة مستقلة حق تحديده بشكل دوري ووفقا لسعر السوق سنداً لأحكام هذه المادة، وبشرط ان لا تتصل هذه الهيئة بمصرف لبنان، لان القانون منعه من امكان تحديد السعر الرسمي للصرف، والسبب هو سعي القانون الى حماية موقع مصرف لبنان من وقوعه في التناقض بالمصالح”.
اما بالنسبة الى صلاحية وزير المال بتحديد السعر الإنتقالي، فيرى ضاهر أنها “انقضت وخرجت عن سياق صلاحيته، وهي حُددت في حينه لتقليص نسبة الفوارق ومنع تأثيرها على عامة الشعب، علما ان الفقرة الرابعة من احكام المادة 229 من قانون النقد والتسليف، قد اوجدت مبدأ قانونيا هو وجوب ألّا يؤدي تطبيق معدل التحويل الجديد الى اي زيادة على الضرائب والرسوم المستوفاة عن مبالغ محررة بالعملات الاجنبية، واوجبت على وزير المال ان يحدد بقرارات، الطرق الكفيلة بتأمين هذا المبدأ”، ليصل ضاهر الى نتيجة ان “كل ذلك يجعل من الممكن الطعن بهذا القرار لوقف تنفيذه وإبطاله امام مجلس شورى الدولة”.
اما في موضوع القروض، وخصوصا قروض التجزئة، فيؤكد ضاهر أن “قانون حماية المستهلك والتعاميم الداخلية تمنع على المصرف تأمين قرض لموظف او صاحب مهنة حرة إلا ضمن امكانية رده وبحدود ان لا يتجاوز السند 30% من دخله او راتبه، وتاليا فان هذا المبدأ اسبق من هذا التحديد وهو موجب لا سيما انه صادر بنص اعلى من قرار وزير المال”. ويشير ضاهر الى أن تحديد سعر الصرف لا يشمل “علاقة المودع بالمصرف، إذ إن العلاقة محصورة ضمن اطار التعاميم الفاقدة للمشروعية، وتاليا فان المودع لا يزال يتقاضى دولاراته على سعر الـ 8 آلاف ليرة وفقا لأساس التعميم 151 المعدل بالتعميم 161″، مؤكدا أن “المشكلة الاكبر واقعة على المودع الذي وقّع على عقد قبل بموجبه الافادة من التعميم الرقم 158 كونه وقّع على عقد قبل بموجبه تحويل دولاراته على سعر 12 الفا، والعقد هو شريعة المتعاقدين وتعديله لا يتحقق إلا من خلال اعادة الاتفاق”.
الى ذلك، يلفت ضاهر الى أن “التحديد الجديد خلق سعر صرف جديدا يضاف الى ما سبقه، وهو سيؤدي تلقائيا الى تعزيز التضخم، وتاليا فإن الدولة لم تلتزم طلبات صندوق النقد، لا بل انها تزيد من هتكها لحرمة النصوص القانونية كافة”، معتبرا ان “سياسة التضخم مقصودة من خلال تعدد اسعار الصرف، كونها تفيد من إطفاء خسائرها وتحقق ارباحا، وهذا ما اعترفت به الخطة الاخيرة التي قدمتها الحكومة، وهذا ايضا ما اشار اليه صندوق النقد الدولي في بيانه الاخير حيث قال بصريح العبارة ان هذا التعدد قد اعتُمد من مصرف لبنان بموافقة السلطة السياسية، وأدى ذلك إلى تعزيز الفساد والإجهاز على ما تبقى من الاحتياطات الأجنبية في البلد، وبهدف تحقيق أرباح يكون قد أشار إلى وجوب تطبيق القانون لإعادة الحقوق لأصحابها”.
الفارق بين السياسات النقدية والمالية
يتظهر الفارق بين السياسات النقدية والمالية في قرار وزير المال الذي وُلد من رحم موازنة العام 2022 وأعطى لوزير المال صلاحيات إستثنائية تخوّله، بعد التشاور مع حاكم مصرف لبنان، تعديل السعر الرسمي المعتمد من وزارة المال لصرف الدولار، وأصبح اليوم 15000 بدلا من 1507 ليرات. هذه المادة التي أنتجت جدلا عقيما في أروقة مجلس النواب في النسخة الأولى من مشروع الموازنة العامة للعام 2022. عندها قرر رئيس المجلس إبعادها عن النقاش ولكن، ومن الواضح، انه لم ولن يبعدها عن مشروع الموازنة. وبذا يكون هذا التعديل دستوريا ووفق الأصول، على ما يؤكد خبير المخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد محمد فحيلي لـ”النهار”.
أما دولار السياسات النقدية فيبقى على حاله حتى إشعار آخر، أي بانتظار تعميم من مصرف لبنان، وتاليا وفق فحيلي، تبقى الأمور على ما هي في التعميم الوسيط الرقم 568 الذي سمح بتسديد قروض التجزئة بالدولار على سعر صرف الـ 1507 ليرات، وهذا يشمل سعر الصرف المعتمد بالتبادل الرسمي بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وكذلك بالنسبة الى التعميم 151 وسعر صرف الـ 8000 ليرة، والتعميم 158 وسعر صرف الـ 12000 ليرة.
ويؤكد فحيلي أن التعديل سوف يرخي بظلاله القاتمة على أمور عدة منها “فاتورة الاستهلاك من بوابة الضريبة على القيمة المضافة التي أصبحت تُحتسب على سعر الـ 15 الف ليرة بدلا من الـ 1507، وسوف تحدث ارتفاعا عاما بالأسعار”. كما أنه “سيؤثر على دخل الفرد بعد تسديد ضريبة الدخل، وخصوصا على موظفي القطاع الخاص الذين يتقاضون رواتبهم كاملة أو جزءا منها بالدولار الفريش، ولكن، وحتى تاريخ سريان مفعول هذا التعديل، تُحتسب وتُدفع ضريبة الدخل على سعر صرف الـ 1507 ليرات للدولار الواحد”.
أما بالنسبة الى تداعيات هذا التعديل على احتساب رأس المال، فيرى فحيلي أنه “كلام يفتقد المنطق الإقتصادي السليم”، ويسأل: “إذا كان الجميع يعترف بأن سعر صرف الـ 1507 هو سعر وهمي ولا يعكس واقع الأمر، فلماذا التمسك به في احتساب رأس المال؟”.
صحيح أن التعديل الذي يفتقد مواكبة الإصلاحات في المالية العامة يعطي مساحة إضافية لصيادي الدولار والمضاربين والمحتكرين، ولكن هذا لا يعني، برأي فحيلي، أن “تعديل سعر الصرف الرسمي هو ما أحدث ذلك، بل ان السبب والمسبب يكون غياب الرقابة. والأهم، رغم كل ما قد يتسبب به هذا التعديل بسعر الصرف، تبقى تداعياته أفضل وأرحم من لجوء الدولة الى طباعة العملة لتغطية نفقاتها”.
سلوى بعلبكي – النهار