بين لهيب وآخر يتنقل اللبنانيون، حاملين معاناتهم وبؤسهم، وما بقي فيهم من قدرة على الصمود، أو ما بقي لهم من “فلس الأرملة” يسدّون به رمق الجوع والبرد وفواتير الكهرباء والنقل والغذاء. وما بين لهيب الصيف وفواتير الموتور والمكيّفات فيه، ولهيب أسعار الوقود للتدفئة شتاءً، يستمر سعر صفيحة المازوت في ارتفاع مرعب، ويُتوقع أن يتّجه الى المليون ليرة في وقت قريب، في صعود لا سقف له علمياً، ما دام اشتعال سعر صرف الدولار مستمراً محلياً، ويلتهب بالتوازي معه سعر النفط عالمياً.
وفيما بدأ يعلو صراخ الناشطين البيئيين، ومعهم رؤساء بلديات الكثير من البلدات الجبلية محذرين من التفلت المروّع في قطع الأشجار المعمّرة و”التحطيب” المخيف الذي يقدم عليه الناس وتجّار الحطب والخشب، متسلحين بحجة جنون أسعار وقود التدفئة، والشتاء القارس المرتقب، لا تزال أزمة التدفئة وكلفتها الباهظة تقض مضاجع اللبنانيين، وخصوصاً سكان القرى الجبلية والبقاع، حيث ستتجاوز الكلفة الشهرية وفق الأسعار الحالية لمازوت التدفئة، خمسة عشر مليون ليرة للبيت الواحد، أو “الصوبيا” الواحدة، وفي ظروف اقتصادية واجتماعية لا تسمح لذوي الدخل المحدود أو صغار العمال بتسديدها.
وما يزيد في طين الأزمة بلة، استمرار نشاط المهربين على الحدود وتحقيقهم أرباحاً كبيرة على حساب الخزينة اللبنانية واحتياطات العملة الصعبة في مصرف لبنان، ما يجعل الحصول على صفيحة مازوت أحياناً لزوم التدفئة المنزلية بمثابة إنجاز كبير، وحلم معيب في ذاكرة اللبنانيين.
ومع اقتراب موسم الشتاء، يستعد اللبنانيون وخصوصاً المقيمون منهم في الجبال والمرتفعات والأماكن الباردة لبرد الشتاء في ظل ارتفاع كلفة التدفئة، خصوصاً إن كان الموسم قاسياً وشديد البرودة. ووفق الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين فإن وسائل التدفئة هي:
– الكهرباء، ولا يُعتمد عليها في ظل الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، وارتفاع كلفة المولدات (سعر الكيلوواط/ ساعة حالياً نحو 15 ألف ليرة).
– الغاز وهو أيضاً مرتفع الثمن (نحو 480 ألف ليرة لقارورة الغاز)، وهي عديمة الفعالية في البرد الشديد.
– المازوت، وهو الوسيلة التي يعتمدها غالبية اللبنانيين لكن كلفتها مرتفعة فإذا ما اعتبرنا أن سعر الصفيحة هو 900 ألف ليرة، والحاجة هي الى نحو 100 صفيحة للوحدة السكنية في موسم الشتاء (وهذه الكمية تختلف تبعاً للظروف المناخية) تكون الكلفة هي 90 مليون ليرة في موسم الشتاء.
– الحطب وتصل الحاجة الى نحو 6 طن من الحطب (وهذه الكمية تختلف تبعاً للظروف المناخية) وتصل كلفة الطن الواحد الى ما بين 6 ملايين ليرة و8 ملايين ليرة حسب الصنف (صنوبر أو سنديان وغيرهما) أي ما بين 36 مليون ليرة و48 مليون ليرة في الموسم الواحد. وتدني سعر الحطب مقارنة بسعر المازوت سيدفع بالعديد من الأسر الى تبديل المدفأة من المازوت الى الحطب وتحمّل كلفة شراء مدفأة جديدة. ولكن لهذا الأمر تداعيات بيئية خطيرة إذ ستزيد من قطع الأشجار وافتعال الحرائق لتحويل الأحراج الى غابات سوداء تسمح بقطع الأشجار.
مصرف لبنان يراقب استيراد المحروقات
فيما اللبنانيون غارقون في دوامة من المسؤول عن التفلت والاستغلال الوقح للظروف وقلة الضمير التي تمارس أحياناً علناً، دون وازع قانوني أو رقابة مسبقة أو لاحقة تكبح جماح الشجع والشراهة عند بعض المستوردين، ليس خافياً أن ضرب اكمام يحصل في قطاع استيراد المشتقات النفطية ضحيته اللبنانيون واحتياط مصرف لبنان بالعملة الصعبة، إذ تتقاطع المعلومات على ألسنة أهل القطاع أنفسهم عن إفادة بعض المستوردين من اعتمادات الاستيراد والاحتفاظ بمبالغ ليست بقليلة منها في حساباتهم خارج لبنان، أو بيع قسم من مستورداتهم في الخارج بغية الاحتفاظ أيضاً بدولاراتهم خارج لبنان.
فبعدما أوقف مصرف لبنان تأمين الدولارات لاستيراد المازوت، طلب أخيراً، عبر قرار وسيط رقمه 13484 من المصارف التجارية “أخذ موافقة مصرف لبنان المسبقة على فتح الاعتمادات أو دفع الفواتير المخصصة لاستيراد المشتقات النفطية (بنزين، مازوت، غاز) على أن يتم، لاحقاً، تزويد مديرية القطع والعمليات الخارجية لدى مصرف لبنان بالفاتورة النهائية ووثيقة الشحن ومحضر التفريغ”.
هذا الطلب الذي فسّره البعض أنه يندرج في اطار إعادة الدعم عبر تأمين الدولارات للاستيراد، نفته مصادر مصرف لبنان التي أكدت لـ”النهار” أن الهدف الأساسي هو معرفة الكمّيات المستوردة من المشتقات النفطية، لا سيما أن المحروقات تشكل الجزء الاساسي ممّا يستورده لبنان، مؤكدة أن “المشتقات النفطية هي السبب الاساسي في الطلب على الدولار من السوق السوداء”. وأشارت الى أنه “من خلال التعميم يمكن معرفة الكميات المستوردة وتقدير الطلب على الدولار في السوق، وتالياً يمكن التأكد من أن الدولارات التي تحوّلها الشركات، تذهب للاستيراد وليس لهدف آخر، كتهريب الدولارات إلى الخارج بحجة استيراد المحروقات”، مؤكدة أن “لا تراجع عن قرار وقف الدعم على المشتقات النفطية، وهو مستمر”.
ولئن تركزت الانتقادات التي توجّه الى مصرف لبنان على أنه كان يُفترض به اتخاذ مثل هذه الخطوة في خلال فترة الدعم وليس الآن حيث أوقف المركزي تأمين الدولارات لاستيراد المازوت، أكدت مصادر مصرف لبنان عينها أن “المعلومات كانت موجودة سابقاً، ووقف التهريب مسؤولية الأمن وهم يقومون بما يستطيعون”، مشددة في الوقت عينه على أنه “بعد وقف الدعم، انخفضت نسبة التهريب كثيراً”.
أما على مقلب الشركات المستوردة للنفط، فأكدت مصادر معنية بالقطاع أنه في غياب التدقيق الفعلي بين تطابق حجم التحويل مع قيمة المشتقات النفطية المستوردة، وردت معلومات الى مصرف لبنان تفيد بأن ثمة شركات مستوردة للنفط تحوّل مبالغ مالية الى الخارج بحجة استيراد المحروقات، ولكنها في المقابل تستورد كمّيات أقل مما تشتريه من المبالغ المحولة، بما يعني أن هذه الشركات تهرّب الاموال الباقية الى الخارج، كما تعمد شركات أخرى الى استيراد النفط وتبيعه في الخارج لتبقي أموالها في الخارج”.
أمام هذه المعلومات، رفض مصرف لبنان إعطاء الموافقة المسبقة لبعض الشركات المستوردة لبواخر ديزل أويل، على خلفية شكوكه في حجم الكميات التي تُستورد، كما طلب معلومات مفصلة من الشركات عن تاريخ الكميات المستوردة وتاريخ الاستيراد وموعد وصولها الى لبنان. من هنا تحرّك تجمّع الشركات المستوردة للنفط وعمد الى إعداد كتاب مفصّل بالأرقام لتبيان كميات المازوت المستوردة من الشركات الخاصة ووزارة الطاقة ومؤسسة الكهرباء ومقارنتها من عام 2018 حتى نهاية أيلول الماضي. الارقام التي دققتها وزارة الطاقة، بيّنت أن الكميات المستوردة من كهرباء لبنان تراجعت بنحو 777 ألف طن في سنة 2022 مقارنة مع سنة 2018 فيما تراجعت الكميات المستوردة من وزارة لطاقة بنحو 394 ألف طن في سنة 2022 مقارنة مع سنة 2018.
وخلصت الأرقام الى أن نسبة التراجع في الاستيراد بلغت نحو 68% تمت تغطية قسم منه من الشركات المستوردة للنفط بحيث زادت الكمية المستوردة بنحو 710 أطنان أي 46%، وذلك من دون الأخذ في الاعتبار كمّيات الفيول أويل التي تراجعت من 1.858.490 طناً الى 5.343 طناً أي بنسبة 99% حسب وزارة الطاقة. وتالياً فإن الكميات الإضافية المستوردة من شركات القطاع الخاص بمقارنة مع الأعوام الماضية، جاءت لتغطي العجز في الكمّية المستوردة من مؤسسة الكهرباء أو وزارة الطاقة، وتلبية السوق المتعطش للمازوت بغية توليد الكهرباء من المولدات الخاصة.
ونبّهت مصادر نفطية من وجود مازوت في السوق اللبنانية مصدره سوريا بنوعية سيئة (مادة الكبريت عالية) وبأسعار أرخص بنحو دولارين للصفيحة الواحدة فيها، وهذه النوعية تؤدي الى أعطال في المولدات كما تؤدي الى مشاكل بيئية وصحية. وهذا النوع من المازوت يُستهلك في منطقة البقاع أكثر من بقية المناطق.
المصدر: النهار – سلوى بعلبكي