من مكتبها الصغير في منزلها، وعلى شاشة حاسوبها، تنفتح صانعة المحتوى سالي أبو مرعي على العالم، فتعمل مع شركات عالمية، حيث أمّنت لها منصات العمل عن بعد مثل Freelancer.com و Upwork و”خمسات”، فرصاً للعمل الحر الذي يوفر عائدات مالية خارجية بالعملة الصعبة، بعدما باتت رواتب الشركات اللبنانية “غير جاذبة لصناع المحتوى”، على وقع الأزمة الاقتصادية.
لا أرقام رسمية للعاملين “عن بعد” في لبنان. فيما قطاع البرمجة وحده، يشغّل زهاء 22 ألف لبناني، وتتراوح العائدات لتصل في أحسن مستوياتها الى 4000 دولار شهرياً، وفق خبير التطور الرقمي رامز القرا، ما يعني إدخال الملايين.
أنا سيدة وقتي
منصات العمل عن بعد هي أفضل ما أنتجته أزمة “كورونا”. بهذه العبارة تعبّر صانعة المحتوى سالي أبو مرعي لـ”المدن”، عن أهمية هذه المنصات في حياة العاملين عن بعد في لبنان، فهي “ساعدتنا على الانخراط بمجال العمل، وأمنت لنا دخلاً مريحاً، وعادت بالفوائد علينا وعلى محيطنا ومجتمعنا”.
وفي مقارنة مع الوظيفة التقليدية، تروي كيف “أتاحت لنا هذه المنصات الاستثمار في وقتنا من دون أن نصرف عليها من دخلنا، على عكس الوظيفة العادية التي تتطلب تكلفة للمواصلات”، كما أمّنت لنا “موازنة وقتنا بين العائلة والعمل”، فبتنا “أسياد أنفسنا” بتوقيت ومكان العمل، و”هو ما يخلق لدينا شعوراً بالراحة تجاه محيط العمل، بعيداً عن ضغط الحضور المكتبي، عدا عن مساهمة هذه المنصات في الـ Multi task productivity، أو الإنتاجية في أكثر من عمل بالوقت نفسه”.
ميزات أخرى أمنتها منصات العمل عن بعد، كعلاقات العمل مع الزبائن خارجها. لكنّ العنصر المالي كان الأهم مع أزمة الدولار في لبنان. في السياق، تعبر سالي عن شعورها “بالأمان”، مع دخل “منصِف” و”بالدولار”.
البحث “العالمي” عن الدولار
لا يمكن فصل توجه الشباب اللبناني للعمل الحر، عن التوجه العالمي له. فالشباب في العصر الرقمي يبتعدون عن الوظيفة الثابتة، على عكس الأجيال السابقة التي كانت تعتمد عليها بشكل أساسي كمصدر للدخل، وفق ما يوضح المدرب والأستاذ الجامعي منور محمد في حديثه لـ”المدن”، آخذاً بالاعتبار “العوامل التي سرّعت هذا التوجه في لبنان، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية عام 2019، حيث بات أي دخل خارجي مبلغاً يُعوّل عليه مقارنة بانهيار العملة المحلية”، سيما مع “جشع أصحاب العمل الذين يسعرون بضائعهم بالدولار ويدفعون رواتب موظفيهم بالليرة”.
والغلبة للاقتصادات العالمية الرقمية اليوم، فكل شاب لديه لابتوب وانترنت ومهارات متعلقة بالأعمال المتاحة عن بعد، يمكنه استخدام هذه المواقع لتعود عليه بدخل أساسي، يقول محمد، لافتاً إلى أهمية منصات العمل عن بعد في انطلاقة الشباب المهنية، فهي “وسيط” يؤمن لهم الزبائن، والأعمال، من دون دفعهم التكاليف، على عكس أي عمل حر قد يحتاجون للإنفاق عليه قبل أن يحصدوا منه الأرباح.
في السياق، يركّز محمد على ثلاثة مستويات تعود بالفائدة على مستخدمي هذه المنصات، فالشباب في بداية حياتهم المهنية، قد يواجهون صعوبات على مستوى كسب المشاريع نسبة لقلة علاقاتهم، وهنا تكمن أهمية منصات العمل الحر، التي توفّر عليهم عناء البحث عن الزبائن، فهم موجودون في مكانٍ واحد وما عليهم سوى التّواصل معهم والاتّفاق قبل بدء العمل.
أما المستوى الثاني فهو ضمان الدفع، والذي يتم عبر هذه المواقع، حيث يتوصل الطرفان الى اتفاق بالتراضي بين العميل ومزود الخدمة.
أما المستوى الثالث. فهو فتح قنوات من لبنان إلى العالم، فهذه المواقع هي “مجتمعات بحد ذاتها”، وهي تلعب دوراً بانطلاقة واعدة للمهتمين بالعمل الحر، عبر تكوين العلاقات وأخذها لخارج المنصة في حال تم تكوين ثقة ومصداقية بين الزبون والفريلانسر، ليكملا مشاريع العمل لاحقا دون الحاجة لوسيط بينهما.
22 ألف متعامل حرّ
بدوره، يربط خبير التطور الرقمي رامز القرا، التوجه اللبناني للعمل الحر لمطلع العام 2020، وتحديدا بعد استشراس أزمة حجز الأموال في البنوك، ما دفع بموظفي عدد كبير من الشركات التكنولوجية المختصة بالبرمجة والهندسة على وجه الخصوص، للتحول الى منصات العمل عن بعد، سيما مع تراجع الاستثمارات وإقفال شركات أجنبية عدة.
22 ألف شخص في لبنان، يصرحون عن طبيعة عملهم بالبرمجة “عن بُعد” وفق منصة LinkedIn، مع قيمة أرباح للشخص الواحد قد تصل إلى 4 آلاف دولار في الشهر في أفضل الحالات. وتعدّ العائدات من هذه الأعمال بملايين الدولارات، إذا ما اعتبرنا أن جميع هؤلاء يعتمدون على العمل الحر كدخل أساسي. هذا ولم نحتسب بعد أرباح العاملين عن بعد بالقطاعات الأخرى كالترجمة وصناعة المحتوى، والتي قد تزيد المبلغ إلى حدّ الضعف، وهي مبالغ يعوّل عليها لتطوير العمل اللبناني الحر!
نحو قوننة عمل الأفراد “عن بُعد”
لكنّ تطوير قطاع العمل الحر في لبنان، دونه تحديات أساسية يعددها القرا، فضعف جودة الانترنت، يتسبب بخسارة فرص كبيرة في هذا المجال.
كما أن البنى التحتية للبنوك اللبنانية، تصعّب التعامل مع البنوك الرقمية العالمية التي تعتمدها منصات العمل عن بعد، مثل “بايونير” و”بايبال”، حيث يتجه اللبنانيون لتقاضي عملهم عبر “ويسترن يونيون” أو فتح حسابات رقمية خارج لبنان عبر أصدقاء، ما يصعّب آلية القبض.
هذا عدا عن الشق القانوني، إذ لا صفة “فردية” قانونية للعمل الحر عن بعد في لبنان. فالعمل الحر للبنانيين لا ينحصر بمنصات العمل عن بعد، بل هناك أعمال لأفراد مع شركات في الخارج.
ويعطي القرا مثالاً عن السماح للأفراد بتأسيس شركات الـIndividual في أوكرانيا، الأمر الذي إذا طبق في لبنان، يجعل شركات عالمية عديدة تتحمس للعمل مع أفراد لبنانيين اكتسبوا “صفة قانونية” ويؤمن لهؤلاء الأفراد حقوقاً كالضمان الاجتماعي، فيما استمرار عدم قوننة “العمل الحر” للأفراد مع شركات في الخارج، يعني خسارة فرص وعائدات بالدولار.
الحاجة إلى تطوير القطاع
يُضاف إلى كل هذه التحديات، عدم تبنّي أي جهة رسمية أو خاصة، تطوير هذا المجال الرقمي، الذي، وعلى عكس القطاع السياحي الذي تمر عائداته بالعملة الصعبة بأصحاب رأس المال لتصل الى موظفيه بالليرة، تصل عائداته للأفراد مباشرة، ليضخوا الدولار مباشرة في السوق اللبناني، ما يقوي العجلة الاقتصادية.
والحال أن دعم القطاع لا يتطلب “خطوات جبّارة” من الدولة، فكل ما يحتاجه الأمر إنشاء معاهد لتطوير العمل الحر في لبنان، والتدريب على التكنولوجيا الحديثة، وقد تسهّل شراكة الدولة اللبنانية مع شركاء متخصصين على التدريب الرقمي مثل coursera أو udemy، ذلك.
ويختم القرا حديثه، لافتاً إلى أنّ مجال التحول الرقمي “أوسع مما قد نتصور بكثير”، فحتى من يتقنون المحاسبة والسكريتاريا ويظنّون أنها أعمال مكتبية حصراً، يمكنهم العمل “أونلاين” في “إدخال البيانات”، أو كخبراء call center ، والقبض بالفريش دولار!