يجد المتابع للخطط الحكومية الخاصة بمعالجة الأزمة محطة لازمة تتكرر، مفادها اننا بحاجة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار. قرض مشفوع باصلاحات يفتح الطريق لقروض وتدفقات أخرى من الخارج، تترواح تقديراتها بين 11 مليار دولار للذين يحنون الى مؤتمر سيدر، و20 الى 25 مليار دولار للمعولين على سيدر ووعود وأمنيات أخرى.
ما سبق يعني ان لبنان يرغب وبإلحاح، وكأن المسألة حياة أو موت، بتدفقات نقدية من الخارج لانقاذ اقتصاده وقطاعه المالي ربما. علماً بأن ازمة المصارف اعمق من أن تنقذها تدفقات عامة. الى ذلك، هناك من يعول على مليارات تأتي من امكان اكتشاف نفط وغاز في عدد من البلوكات البحرية.
تكرار نفس النموذج التشغيلي
يمكن القول ان تلك الخطط، انما تكرر ما كان سائداً منذ التسعينات حتى تاريخه، اي ان التدفقات الخارجية هي الوحيدة القادرة على احياء لبنان واهله واقتصاده. ولا نموذج تشغيليا صالحاً الا بالاعتماد على المزيد من تلك التدفقات.
على سبيل المثال لا الحصر، يذكر على هذا الصعيد أن لبنان شهد تدفقات هائلة في سنوات قليلة بين 2007 و2010 قدرت آنذاك بين 35 و40 مليار دولار. وبين أسباب ذلك التدفق السخي الأزمة المالية العالمية التي دفعت بمليارات، من دول غربية كانت تعاني من أزمات مالية آنذاك، الى دول أخرى بينها لبنان حيث الفوائد العالية والسرية المصرفية. ثم بدأ ميزان المدفوعات يسجل عجزاً اعتبارا من 2011 تزامنا مع انخراط “حزب الله” في احداث الربيع العربي، وتردي الاوضاع الاقتصادية والفراغ الرئاسي خلال اكثر من سنتين…
واذا أخذنا اسوأ سنوات التدفقات في تاريخ لبنان، وهي بين 2014 و2021، لوجدنا انها بلغت نحو 17 الى 18 مليار دولار سنوياً. وهي موزعة بين تحويلات مغتربين وايرادات سياحية وصادرات وبعض التدفقات الاستثمارية.
الرقم المذكور يعتبر مرتفعاً قياساً الى حجم الاقتصاد. وكان يفترض استخدامه لمعالجة ثغرات في الهيكل الاقتصادي والاختلال المالي. لكن الامور تركت على ما هي، من دون اي اجراء اقتصادي مالي جذري مما سمح بهدر كل تلك المليارات. لا بل كان الاقتصاد بحاجة الى ما هو اكثر منها. ففي مقابل تدفق 120 مليار دولار في الفترة المذكورة، خرج من البلاد 178 ملياراً قسم كبير منها للاستيراد، ثم تحويلات العمالة الاجنبية فضلا عن خروج اموال اعتباراً من 2017 بعد أزمة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السعودية. وبالتالي كان الفارق الاجمالي نحو 58 مليار دولار اي بمعدل 8 مليارات دولار(بالسالب) سنوياً.
تعليقا على ما سبق تذكر مصادر اقتصادية مالية جملة ملاحظات كالآتي:
تبقى الثغرة الأكبر في الإستيراد المفرط
أولاً: يبقى الاستيراد المفتوح على مصراعية وبرسوم جمركية زهيدة المشكل الأساس. والسؤال هو كيف لبلد مأزوم، في معظم قطاعاته تقريباً، ان يعود الاستيراد فيه للارتفاع في 2022، حيث تشير التقديرات الى امكان وصول الواردات الى 15 مليار دولار مع نهاية السنة، اي 100% من الناتج الذي يقدره البنك الدولي بنحو 14 الى 15 ملياراً. تلك النسبة فريدة من نوعها في العالم، ولا يمكن ان تستمر على هذا النحو، لأنها تستنفد الاحتياطيات الباقية في مصرف لبنان… وبعد ذلك الطوفان!
تنمية القطاعات المنتجة وتوجيه الإستثمارات
ثانياً: على الخطط الحكومية التركيز اكثر على كيفية تنمية القطاعات الانتاجية والمصدرة، وعدم الاكتفاء بحوافز مجتزأة ومبعثرة من هنا وهناك من دون خطة شاملة، فضلاً عن عقم حوافز توضع على قياس هذا او ذاك وفقا للضغوط التي تمارس، او المصالح التي تشبك بين اطراف معنية بمعزل عن خصوصية أو أهمية هذا القطاع او ذاك. ولذلك ايضاً صلة بالتدفقات الاستثمارية من الخارج، التي كانت تجد ضالتها في الودائع المصرفية ذات الفوائد العالية. كما في القطاع العقاري الذي تورم لدرجة انه تحول عبئاً على الاقتصاد والسكان لا سيما الشرائح الواسعة التي تفرجت على ارتفاع اسعار العقارات والايجارات بحسرة بالغة. فالتدفقات الاستثمارية لا تترك عادة على عواهنها، بل يمكن توجيهها الى قطاعات دون أخرى. وفي البلدان الغربية الليبرالية تجارب كثيرة وقائمة على هذا الصعيد. وهذا الاستدلال كي لا يتهم احد احداً بالاقتصاد الموجه!
تعويل مبالغ فيه على السياحة
ثالثاً: في كل مرة يقترب فيه الصيف وموسم العطلات تسري اخبار عن امكان انتعاش ما، بفعل صرف دولارت في الداخل من قبل المغتربين او بعض السياح. الا ان ذلك سريع الذوبان، ولا يعول عليه كثيراً. لان معظم الدولارات التي تنفق تعود لتخرج لاستيراد الفيول والمازوت لزوم الكهرباء ولزوم استيراد مواد وسلع وغذاء يزيد استهلاكها مع ازدياد عدد المغتربين والسياح. السياحة عموما، وان كانت مساندة نسبياً في اطار نمو الاقتصاد، ليست القطاع الذي يعول عليه بالدرجة الأولى من حيث مساهمتهىا في الناتج المحلي. وخير دليل ان بلدين عربيين مثل مصر والمغرب عرفا هذا المعادلة، ويعملان منذ عقود على تنمية قطاعات أخرى ذات قيمة مضافة اعلى، رغم انهما من البلدان الغنية والجدية في الجذب السياحي.
إعتماد مفرط على العمالة الأجنبية
رابعا: رغم الازمة الخانقة وخروج عشرات الآلاف من العمالة الاجنبية من لبنان في 2020 و2021، تبقى تحويلات العمالة الباقية الى بلدانها الام نحو ملياري دولار سنوياً، وهو رقم كبير قياساً الى حجم الاقتصاد وأزمة ثلاثة ارباع سكانه وتراجع ناتجه من 55 الى 15 مليار دولار فقط. وعلى هذا الصعيد، نقاش كبير حول ما يقبل ان يقوم به اللبناني وما لا يقبل القيام به. وهو نقاش سوسيولوجي وسيكولوجي واقتصادي في آن. وهنا يجدر بالجهات المعنية البحث جدياً إما في ضرائب عالية تفرض على العمالة الاجنبية واستقدامها، واما اعادة التفكير بكل بنية التعليم والتدريب المهني في البلاد، فضلاً عن ضرورة اعطاء حوافز لأرباب العمال المقبلين على توظيف لبنانيين. وهذا ما تقوم به دول الخليج الغنية رغم الثروات النفطية هناك، إذ تطبق برامج واسعة النطاق لتحفيز توظيف اليد العاملة الوطنية على حساب العمالة الوافدة.
تقرير بنك عودة
على صعيد متصل، صدر قبل ايام تقرير لبنك عودة ناقش فيه الحاجة إلى التحوّل نحو نموذج اقتصادي جديد بعد فشل النموذج الذي اتّسم فيه لبنان لعقود من الزمن. وسأل التقرير “هل ينبغي على لبنان التخلي عن المحرّكات التي تقبع خلف النموذج السابق؟ هل ينبغي إغفال قطاع الخدمات والذي شكّل لعقود طويلة المحرّك الرئيسي للنمو؟ وما هو البديل لبلد لا تتوفر فيه المواد الأولية ولا العمالة المتدنية الكلفة؟
وأضاف:” مما لا شك فيه أنّ النموذج السابق والذي يعتمد على تمويل العجوزات الكبيرة في الميزان التجاري من خلال الأموال الوافدة من الخارج لم يعد نموذجاً مستداماً نظراً للتقلّص الملحوظ في الأموال المتدفقة من الخارج. لذا، لا بد للبنان من خفض استيراده، وتعزيز صادراته وإنتاجه المحلي وتعزيز تدفقاته المالية الوافدة بشكل عام”.
فجوة الواردات والصادرات كبيرة جداً
فصحيح، وفق التقرير، أنّ الواردات تقلصت بنسبة 30% خلال العامين اللذين أعقبا اندلاع الأزمة الاقتصادية-المالية في لبنان، إلا أنّها بلغت زهاء 14 ملياراً في العام 2021، في حين انّ الصادرات لم تتجاوز الـ4 مليارات دولار، أي أنّ نسبة الصادرات إلى الواردات لم يتعدّ الـ29%. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2022، زادت الواردات بنسبة 34% مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. كما يجدر الذكر أنّ نسبة الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة جداً عند 65%، وهي تعتبر إحدى أعلى النسب في العالم، ذلك أنّ هذه النسبة تبلغ 37% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و24% في الأسواق الناشئة، و28% في العالم بشكل عام.
خطيئة تثبيت سعر الصرف
إنّ الاختلالات الحقيقية الراهنة نتجت عن التمسّك في الحفاظ على استقرار سعر الصرف لفترة طويلة، وفقا لتقرير بنك عودة، ما أدى إلى أحجام كبيرة من الواردات من السلع والخدمات داخل اقتصاد يعتمد بشكل مفرط على الخارج ويفتقد إلى الانتاج المحلي وسط إنفاق مفرط. فمنذ العام 2014، تمّ إنفاق نحو 178 مليار دولار على الواردات والانفاق السياحي في الخارج (توزعت بين 142 مليار دولار و36 مليار دولار على التوالي)، في حين توافدت تدفقات مالية بقيمة 120 مليار دولار (تحاويل مالية صافية وعوائد الصادرات واستثمارات أجنبية مباشرة وسياحة)، الأمر الذي نتج عنه فجوة بقيمة 58 مليار دولار، والتي تم تمويلها بشكل غير مباشر عبر الموجودات الخارجية الصافية للنظام المالي (مصرف لبنان ومصارف).
اقتصاد عاش عقوداً فوق طاقته
مما لا شكً فيه أنّ هناك حتماً مسؤولية مشتركة لمختلف العملاء الاقتصاديين تجاه اندلاع الأزمة، كما يؤكد تقرير بنك عودة إلا أنّه لا يمكن إغفال أن الاختلالات الحقيقية نتجت عن الإنفاق المفرط داخل اقتصاد عاش لعقود فوق إمكاناته في ظل سياسات محلية غير تقليدية وسوء إدارة بالغ للقطاع العام. وأكد أنّ معالجة مسألة القطاع الخارجي والذي يشهد اختلالات مستمرة يعدّ أمراً أساسياً. إذ يمكن التوصل إلى تحقيق توازن في ميزان المدفوعات من خلال تقليص الواردات بشكل أكبر، وزيادة الصادرات وتعزيز التدفقات المالية. من هنا تبرز أهمية تعزيز قدرة لبنان على جذب التدفقات المالية الوافدة من خلال استعادة عامل الثقة تدريجياً، كما تعزيز الإنتاج المحلي والصادرات من خلال دعم القطاعات ذات القيمة المضافة وفرض قيود وضرائب على الاستيراد الذي يؤدي إلى تآكل الموجودات الخارجية لدى النظام المالي اللبناني. ويظهر على نفس القدر من الأهمية ترويج الإنتاج المحلي على المستوى المحلي وفي أسواق التصدير.
عدم إغفال التجارة والخدمات
إلى ذلك، يشير تقرير عودة الى انه ينبغي على لبنان عدم إغفال قطاعات التجارة والخدمات كونها تمثّل ميزته الأساسية وسمته التنافسية. ومن ضمن هذه القطاعات تظهر الخدمات الصحية والخدمات التعليمية والخدمات الهندسية والخدمات السياحية والخدمات المالية. إن هذه القطاعات كانت وستبقى المحرّك الرئيسي للاقتصاد اللبناني في ظل تخرّج آلاف الطلاب اللبنانيين سنوياً والذين يتوجهون نحو قطاعات التجارة والخدمات خصوصاً. وعليه، فإنّ أي نموذج جديد ينبغي أن يعزّز قطاع التجارة والخدمات باعتباره المحرّك الأساسي للنمو، ناهيك عن تحفيز قطاعي الزارعة والصناعة بهدف التوصل إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي لتلبية الحاجات الاستهلاكية المحلية بدلاً من الاعتماد شبه الكلي على مصادر خارجية وسلع أجنبية بشكل عام.