مع صدور قانون الموازنة العامة للعام 2022 في عدد خاص من الجريدة الرسمية اليوم، تكون الدولة اللبنانية قد لبّت غالبية الشروط المطروحة ضمن الاتفاق الأوّلي مع صندوق النقد الدولي، فيما التجاذبات على أشدّها في مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول” الذي حتى الآن لا يزال موضع أخذ وردّ في اللجان النيابية.
في غضون ذلك، أصبحت الموازنة نافذة حكماً فور صدورها في الجريدة الرسمية، وعلمت “المركزية” في السياق من مصدر في وزارة المال أن الدولار الرسمي (أو الدولار الجمركي) المُدرَج في الموازنة في بند تحديد الواردات، سيتأخّر تطبيقه بعض الشيء، مرجِّحاً أن يصبح نافذاً اعتباراً من شهر كانون الأول المقبل.
وبذلك يبقى أمام اللبنانيين أسابيع معدودة قبل أن يصطدموا بلائحة أسعار متصاعدة تواكب أرقام الموازنة الجديدة، من دون إنكار أن إقرار الموازنة أحدث انفلااجاً في صفوف المتقاعدين وموظفي القطاع العام، وأفضى جواً من “الشرعية المالية” يطمئن إليها صندوق النقد… والاقتصاد اللبناني عشية الأعياد.
من هنا، يلاحظ الخبراء وجود نيّة لدى الأفرقاء السياسيين تجنيب البلاد أي خضّة قد يُحدثها إقرار قانون من هنا وهناك ولا سيما قانون الـ”كابيتال كونترول”. إذ لن يتم إقرار قوانين محط خلاف سياسي وخاضع للشعبوية السياسية، قبل انتخاب رئيس للجمهورية يُنهي واقع الفراغ في الرئاسة الأولى ويُنتج حكومة جديدة فاعلة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يبقى التعويل على عطلات عيدَيّ الميلاد ورأس السنة لاستقطاب السياح والمغتربين بما يُريح الوضع الاقتصادي في البلاد ويُفرج اللبنانيين من خناق الأزمة المعيشية إلى حدٍّ ما.
لذلك يجب الإقرار بوجود توافق سياسي وحيد يخرق الخلافات والتجاذبات السياسية، يكمن في الإجماع على ضرورة تهدئة الوضع الداخلي من الآن وحتى مطلع السنة المقبلة… وبالتالي لن يتم الإقدام على أي قرار أو خطوة أو إقرار أي قانون وحتى الـ”كابيتال كونترول”، قد يُثير الخلافات ويدفع إلى التظاهر في الشارع ويخلق بلبلة على أبواب الأعياد المنتَظَرة.
حتى أن الجلسات النيابية المخصّصة لانتخاب رئيس للجمهورية سيتم إرجاؤها إلى ما بعد الأعياد لتجنيب البلاد أي تشنّجات تعكّر صفو أجواء العيد.
إذاً الفترة الفاصلة عن بداية العام الجديد، ستكون مرحلة تهدئة تأميناً للاستقرار الذي يُنشده المغتربون والسيّاح… أما بعد ذلك، فلكل حادثٍ حديث.
قراءة في حيثيات الـ”كابيتال كونترول”
“لا نزال بعيدين عن إقرار مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول” يقول رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي نسيب غبريل لـ”المركزية”، ويعتبر أن الطريقة التي يتم فيها درس مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول” تذكّره بالمسلسلات التلفزيوني الطويلة، “إذ أن مشروع القانون انطلق منذ تشرين الأول 2019 ولا نعلم لغاية اليوم متى سينتهي على الأقل الموسم الأول منه… المشهد الدائم لهذا الموضوع يتسم بالمزايدات والشعبوية وعدم الدقة في أهداف هذا المشروع القانون، وهناك تقاذف في المسؤوليات، ففي ظاهر الأمور ليس هناك جهة سياسية تريد أن تتحمّل مسؤولية إقراره بسبب هذه المزايدات والشعبوية الزاحفة والمغالطات في أهدافه”.
ويُضيف: من الطبيعي أنه كان يجب أن يُقرّ في أيلول 2019 حين ظهرت سوق موازية لسعر صرف الدولار للمرة الأولى في لبنان منذ 27 عاماً، ما انعكس شحاً للسيولة في الاقتصاد جراء التراجع الحاد لتدفق رؤوس الأموال إلى لبنان. فلو أقرّ الـ”كابيتال كونترول” آنذاك، لكان أنتج استقراراً في الوضع النقدي والمصرفي، ولجم التدهور، ووضع حداً لتفاقم الأزمة، وجنّب كل هذه الاتهامات والمغالطات…
ويُذكّر بأنه “في تشرين الأول 2019 أُعطيّت تبريرات وأعذار كثيرة لعدم إقرار الـ”كابيتال كونترول” ومنها أنه يؤثّر بالنظام الاقتصادي الحرّ، وكل جهة طلبت موافقة الجهة الأخرى لإقراره… فكان هناك تقاذف للمسؤوليات”.
لكنه يؤكد في السياق، أن “القانون لا يتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحرّ واقتصاد السوق، ولا يعرّض هويّة لبنان الاقتصادية للخطر. لأن أهداف هذا القانون وضع ضوابط لعمليات تحويل الأموال إلى الخارج والسحوبات النقدية في الداخل بشكل شفاف لمنع تدهور سعر الصرف والحفاظ على احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وما تبقى من سيولة بالعملات لدى المصارف التجارية المودَعة في المصارف المراسِلة”.
وعن جدوى الـ”كابيتال كونترول” حالياً، يقول: يوجد اليوم في ميزانية المصارف التجارية المجَمَّعة 97 مليار دولار ودائع بالعملات الأجنبية، فالمصارف لا تملك السيولة، إذ أن صافي الموجودات الخارجية للمصارف هو عجز بقيمة 400 مليون دولار في آخر أيلول 2022، لكن في كل الأحوال لا يوجد لغاية اليوم قانون يمنع التحاويل وينظّم السحوبات في الداخل. كما أن الـ”كابيتال كونترول” في حال أقرّ اليوم، يحافظ على احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية وما تبقى من سيولة بالعملات للمصارف التجارية لدى المصارف المراسِلة.
ويتابع: صحيح أن الضوابط ستوضع على المصارف والمؤسسات المالية في مقابل سوق موازية ونقدية بالدولار الأميركي، ونعلم أن أي نسخة من مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول” فصَل بين حسابات الدولار الجديدة ولم يضع أي قيود عليها. ومن جهة أخرى هناك دولار في السوق وتهريب للعملة الخضراء إلى الخارج. كلها نقاط يجب معالجتها في مشروع القانون المذكور.
ويرى أن “في حال تم وضع سقف للسحوبات بقيمة ألف دولار أميركي، فيجب أن يكون بمعدل تستطيع المصارف تلبيته، أي يجب أن يأخذ في الاعتبار قدرة المصارف على تلبية هذه السحوبات. أو إذا أراد المودِع سحب الأموال بالليرة فالمصارف لا تستطيع تلبية تلك السحوبات لشهر واحد، لأن مصرف لبنان يتحمّل الخسائر الناجمة عن تحاويل الودائع من الدولار إلى الليرة وفق أسعار الصرف الـ8 آلاف و12 ألف ليرة للدولار الواحد بحسب التعاميم 151 و158.
ويُضيف: إذا أبقى القانون على سحب ألف دولار شهرياً، فعلى مصرف لبنان أن يساهم بشكل مباشر في تلبية هذه السحوبات. كما على القانون أن يسمح لكل مودِع بسحب راتبه الشهري الموطَّن بالكامل بالليرة اللبنانية وعدم احتساب الراتب ضمن سقف السحوبات الشهرية، أي يجب استثناء الرواتب والمعاشات ومعاشات التقاعد الشهرية من سقف السحوبات.
ويشدد غبريل على وجوب “أن تأتي استثناءات التحاويل من ضمن رؤية اقتصادية شاملة من أجل تحديد القطاعات المعنية التي ستشملها الاستثناءات، وذلك للحفاظ على احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية”.
ويخلص إلى القول: لا نزال بعيدين عن إقرار قانون الـ”كابيتال كونترول” على رغم الجهود المبذولة، فهو خاضع للتجاذبات والمزايدات والشعبوية عبر ربط القوانين ببعضها بشكل مستغرَب. يجب أن تكون هناك مقاربة علمية للموضوع علماً أنه يدخل من ضمن الإجراءات المسبَقة الملحوظة في اتفاق صندوق النقد الدولي الذي لن يعمد إلى إلغاء هذا البند، لذلك إذا أردنا الاستعانة بالصندوق وأن يوقّع مجلسه التنفيذي قرض الـ3 مليارات دولار، فعلينا الالتزام بالشروط التسعة المسبقة ومن ضمنها مشروع قانون الـ”كابيتال كونترول”… وكلما تأخرنا في إقراره أظهرنا عدم وجود نيّة صادقة وملحّة من قبل السلطات وعدم جديّتها في إجراء الإصلاحات المطلوبة بعد سبعة أشهر من توقيع الاتفاق الأوّلي مع الصندوق.
المصدر: المركزية