قد يكون من قبيل المصادفة أن تأتي مقابلة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، التلفزيونية، قبل يومين فقط من صدور آخر تقارير البنك الدولي. وقد يكون من قبيل المصادفة أيضًا أن يأتي مضمون تقرير البنك الدولي بما يجيب على كلام الحاكم ويهزّؤه بشكل مهين ومُستحَق، من دون أن يسمّيه أو يشير إليه، بل ومن دون أن يتقصّد التقرير ذلك، طالما أن المضمون تم إعداده على امتداد فترة طويلة سبقت المقابلة.
..لكن قد لا تكون مصادفة
لكن بإمكان العقل الخبيث أن يعتقد أن في تزامن المناسبتين ما هو أبعد من الصدفة، طالما أن كلا المناسبتين تتصلان بمعركة السرديّة وتوزيع المسؤوليّات. هل اختار الحاكم عن قصد موعد مقابلته، ومضمونها، قبيل نشر التقرير بكل ما سيحتويه من معلومات وتشخيص؟ أم هل اختار القيمون على نشر التقرير تأخير نشره لبضعة أيّام، لتمرير مقابلة الحاكم، كي لا يكيّف كلامه مع مضمون التقرير؟ يصعب البت بهذه الأسئلة، طالما أنّها تتصل بنوايا الطرفين المبيّتة، وضعف الثقة وقلّة التقدير المتبادلين بين المؤسسات الدوليّة والسلطة النقديّة في لبنان.
لكن وبمعزل عن النوايا، يمكن القول أنّ التمحيص في تفاصيل التقرير، ومقارنة مضمونه بما تضمّنته المقابلة، كافي لتعرية الكثير من السرديّات التي تبرّع سلامة لتسويقها بالنيابة عن المنظومة قاطبةً، وبالتكافل والتضامن معها. وفي قضايا الاقتصاد، كثيرًا ما يعتمد تشخيص المشكلة على نوعيّة المصالح التي يدافع عنها الشخص، والهواجس والأولويّات المرتبطة بهذه المصالح، ما يحدد الإشكاليّات التي يتم التعامل معها. ومن هنا، بات بالإمكان السؤال: كم يحتاج المرء لأن يكون مجحفًا بحق مجتمعه، كي تصبح كبرى المؤسسات الدوليّة الرأسماليّة على يساره في تشخيصها وهواجسها؟
كيف يقرأ الحاكم اقتصاد لبنان؟
الإشكاليّة الأولى التي تبرز بمجرّد قراءة تقرير البنك الدولي، هي الأسس التي قرأ من خلالها حاكم مصرف لبنان أداء الاقتصاد اللبناني في مقابلته الأخيرة. فبينما أشار الحاكم –بتفاؤل كبير- إلى أنّ أرقامه تؤكّد عودة لبنان لتسجيل معدلات نمو اقتصادي قاربت 2% خلال العام الحالي، أتى تقرير البنك الدولي بعد يومين ليعلن أن الاقتصاد اللبناني في طريقه لتسجيل انكماش بنسبة 5.4% خلال عام 2022. لا، بل ذهب التقرير للإشارة إلى أنّ إجمالي الانكماش المحقق في الناتج المحلّي على مدى سنوات الأزمة الأربع، قوّض كل ما حققه لبنان من نمو اقتصادي على مدى 15 سنة قبل الأزمة. مع الإشارة إلى أنّ التقرير لفت إلى أنّ هذا الانكماش لا يمكن مقارنته عالميًّا اليوم إلا بالكساد الذي شهدته اليمن، خلال السنوات الأربعة الأولى من الحرب فيها.
وبينما كان حاكم مصرف يشيد بنمو قيمة الواردات خلال العام الحالي، كمؤشّر اقتصادي إيجابي يدعو للتفاؤل، كان التقرير يندهش من أنّ بلدًا يعيش حالة كساد عميقة وطويلة شهد زيادة في عجز الحساب الجاري، نتيجة زيادة قيمة الواردات بالتحديد، ما سيزيد من حجم استنزاف احتياطات مصرف لبنان القابلة للاستخدام، ويضغط على الدولارات المتبقية في الاقتصاد النقدي. وهذا التطور السلبي، لا يعود حتمًا إلى تنامي الحركة الاقتصاديّة، كما حاول الحاكم الإيحاء، بل إلى زيادة فاتورة استيراد المحروقات وسائر السلع، “لأن انخفاض حجم الاستهلاك يقابله ارتفاع أسعار الطاقة عالميًّا”. أي باختصار، لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بهذا التطوّر، لا من ناحية مسبباته، ولا تداعياته على الاقتصاد المحلّي.
على صعيدٍ آخر، كان الحاكم يتحدّث متباهيًا بقدرة مصرف لبنان على “تثبيت أجور” العاملين في القطاع العام، من خلال بيعهم الدولارات بسعر المنصّة، التي تقل بنحو 10 آلاف ليرة عن سعر السوق الموازية. إلا أنّ التقرير كان يذكّر في مكانٍ آخر بحجم التراجع في قيمة العملة المحليّة، الذي بلغت نسبته 137% خلال 2020، و219% خلال 2021، و145% هذه السنة. بهذا المعنى، ما حققه المصرف المركزي سمح بزيادة نسبتها 33% في أجور موظفي القطاع العام، في حين أنّ أجور هؤلاء خسرت 96% من قيمتها، نتيجة أزمة نقديّة يفترض أن يكون مصرف لبنان مسؤولًا عن التعامل معها (بوصفه المسؤول عن السياسة النقديّة).
مع الإشارة إلى أن الربح الناتج عن الفارق بين سعر صرف المنصّة وسعر السوق الموازية، يفترض أن يكون مصدراً من مصادر التشوّه في السياسة النقديّة، نتيجة عدم قدرة المصرف المركزي على ضبط سعر السوق السوداء، لا مصدر تباهي بوصفه مصدر ربح لفئة معيّنة. كما لا يصح القول بأي شكل من الأشكال أنّ نسبة استفادة موظفي القطاع العام من هذه العمليّة، التي تقتصر على 33% من أصل الراتب، تمثّل فعلًا “تثبيتاً” للأجور، في ظل التدهور المستمر في سعر صرف الليرة اللبنانيّة وأجور موظفي القطاع العام.
أي مصالح نخدم؟ أي أولويّات نريد؟
بالتوازي مع كل ما سبق، كان حاكم مصرف لبنان يقدّم رؤيته الخاصّة للمعالجة: مصرف لبنان يقوم بتنظيم علاقة المودعين مع المصارف اليوم، كما يقوم بتحضير مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهذا المسار بالمناسبة، بات يرتكز في جزء منه على فكرة صندوق استرداد الودائع، الذي يستهدف تأجيل التعامل مع كتلة كبيرة من الخسائر، عبر ربط جزء من الودائع بإيرادات الدولة المستقبليّة. كما كان الحاكم يعلن اتجاهه نحو رفع سعر الصرف المعتمد للسحوبات النقديّة لغاية 15 ألف ليرة لبنانيّة ابتداءً من أوّل شهر شباط المقبل، موحيًّا أن تقدمًا في موضوع الكابيتال كونترول لن يحصل قبل ذلك الوقت.
إلا أنّ تقرير البنك الدولي كان في مكانٍ آخر يعيد التذكير أن الرهان على الأموال العامّة لتعويم النظام المالي بات فكرة غير واقعيّة، في ظل تضخّم حجم الخسائر التي توازي ثلاثة أضعاف الناتج المحلّي اليوم، في حين أنّ حجم أصول الدولة لا يساوي إلا جزء يسير من هذه الفجوة. كما أعاد التقرير التذكير بأن أي خطّة تقوم على هذا المبدأ ستفتقد إلى المصداقيّة، وسيكون مصيرها الفشل. وفي جميع الحالات، لم يفت التقرير الإشارة بأن استعمال أموال دافعي الضرائب لتعويم المصارف سيساهم في إعادة توزيع الثروة من الأسر الأفقر إلى الأغنى، إذ ستكون النتيجة التعويض على كبار المودعين والمساهمين في المصارف من أموال عامّة المواطنين. مع العلم أنّ نحو 1% من المقيمين فقط كانوا يستحوذون على 50% من قيمة الودائع قبل الانهيار، ما يعيد التأكيد على أن سداد الودائع من الأموال العامّة سيساهم في تركيز الثروة بيد هؤلاء.
في خلاصة الأمر، ذهب تقرير البنك الدولي إلى النقطة التي ناور رياض سلامة للابتعاد عنها: ضرورة إعادة هيكلة القطاع المالي، وبما يحمّل المساهمين في المصارف وكبار الدائنين كلفة هذا المسار، وبما يسمح أيضًا بالتخلّص من كتلة الخسائر التي تعيق اليوم إعادة الانتظام الاقتصادي، واستعادة معدلات النمو. أمّا تأخير انطلاقة هذا المسار، فلن تؤدّي إلّا إلى “مضاعفة خسائر رأس المال البشري والاجتماعي في البلاد”. ببساطة، كان البنك الدولي في هذه النقطة أكثر انحيازًا لمصالح عموم اللبنانيين من محدودي الدخل، مقارنة بسلامة في مقابلته، بما يمثّله الرجل كأمين صندوق المنظومة والمؤتمن على أسرارها الدفينة.