على وقع هدير التحقيق الأوروبي الذي أدار محركاته الاستقصائية باتجاه بيروت تعقّباً للارتكابات المالية المتهم بارتكابها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وآخرون، تعتمد المنظومة الحاكمة سياسة “حبس الأنفاس” بانتظار اتضاح ما ستسفر عنه الجولة الأولى من مهمة المحققين الأوروبيين في العاصمة اللبنانية، وسط معلومات متقاطعة أشارت إلى تعويل أركان هذه المنظومة على “الحصانة” التي يؤمنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لكبار الشخصيات والقيادات السياسية الممسكة بزمام السلطة، ربطاً برهانه على هذه القيادات لتمرير أي تسوية تعمل باريس على بلورتها خارجياً للأزمة الرئاسية اللبنانية، سيّما وأنّ مصادر واسعة الاطلاع لفتت إلى أنّ اتصالات جرت على مستويات رفيعة بين بيروت وباريس لضمان عدم شمول التحقيق المالي الأوروبي أسماء كبيرة مالية ومصرفية وسياسية وحزبية بحجة “منع اهتزاز الاستقرار اللبناني الهش وتعميق هوة الانهيار”.
لكن وبمعزل عما سيتوصل إليه التحقيق القضائي الأوروبي من نتائج نهائية في الملفات المالية المنوي التدقيق بها، قالت مصادر معنيّة متابعة للملف أن في طليعة النتائج الأولية “هدم جدار السرية المصرفية” بحيث سيكون لبنان “ولأول مرة في تاريخه أمام استحقاق الرفع الكامل للسرية المصرفية وفقاً لمقتضيات أو متطلبات التحقيق الأوروبي في الشق المتعلق بتبييض الأموال”.
وأكدت المصادر أنّ “الدولة اللبنانية ملزمة وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (لا سيما المادة 46 منها التي صادق عليها لبنان في العام 2009) بتقديم أكبر قدر ممكن من المساعدة القانونية المتبادلة خلال التحقيقات والملاحقات والإجراءات القانونية الجزائية، ويجب أن يكون أي رفض مبرراً وفق استثناءات قليلة تفسيرها صارم”، لافتةً إلى أنه “على لبنان في سياق التحقيقات الخاصة باتهام لبنانيين بتبييض الأموال على الأراضي الأوروبية وضع الآليات المناسبة التي تهدف إلى تجاوز أي عائق متعلق بالسرية المصرفية، ففي المعاهدة الأممية مواد وفقرات تنص صراحة على منع الدولة اللبنانية من التذرع بأي نوع من أنواع السرية المصرفية، أو رفض الامتثال لطلبات السلطات القضائية الأوروبية على هذا الصعيد، كما على البنوك الالتزام أيضاً بتقديم المستندات المتعلقة بالحسابات المصرفية المستهدفة بالتحقيق”، مع الإشارة إلى أن لدى المحققين الأوروبيين جملة ملاحظات على عرقلة الربط مع تحقيقات القاضي جان طنوس (مع سلامة وآخرين) في سياق طلبات التعاون القانوني المتبادل.
يذكر أن التعديل الأخير لقانون السرية المصرفية أبقى على بعض “أعناق الاختناق” بوجه طلبات رفع السرية، لكن ذلك لا يصلح إلا محلياً، على أن يسقط أي حاجز من هذا القبيل أمام المحققين الأوروبيين في سابقة لم يعرف لها لبنان مثيلاً منذ إقرار قانون السرية المصرفية في العام 1956. وتشدد المصادر المعنية على أن “سقوط جدار السرية يعني الكثير لاحقاً اذا تأكدت اتهامات الاختلاس والتبييض والتهرب الضريبي، ما قد يفتح الباب واسعاً أمام ناشطين حقوقيين ومدنيين لرفع دعاوى ضد الساسة الفاسدين في المحافل القضائية الأوروبية كما فعلوا ضد سلامة، وعندئذ يمكن القول إن “سقوط الهيكل” بات وشيكاً”.