يقرّ الكثير من الخبراء بالعجز التام عن إدراك كامل جوانب التطورات الطارئة على المَشهد النقدي ومآلاتها، في ظل تَمَدُّد الفراغات الدستورية وتَفاقُم غياب الدولة وشلل مؤسساتها، والمعزَّز بتموْضع حكومة تصريف الأعمال على مسار “الحياد” السلبي، بما يشمل خصوصاً المهمات الاقتصادية والمالية المُلِحّة.
وبدا هذا القصور مفهوماً، بل مبرَّراً، في ظل تَكاثُر عوامل التشويش وعدم اليقين، والتي تعزّزْت أكثر بفعل الغموض غير البنّاء الذي يكتنف البُعد القضائي الدولي والمحلي، والمستنِد الى اتهاماتٍ متطرفة بخطورتها، ولا سيما في ارتكازها على شبهات الجرائم المالية الموجَّهة الى ركنيْ القطاع المالي.
وكشفت الاحصاءاتُ المحدّثة التي تابعتْها “الراي” الكويتية، في الوقائع الميدانية، أن تقليص الكتلة النقدية المحرَّرة بالليرة إلى نحو 69 تريليوناً منتصف الشهر الحالي، مقابل نحو 83 تريليون ليرة نهاية الشهر الماضي، لم ينعكس بتاتاً على مجرى العمليات النقدية في الأسواق المُوازية التي شهدت انخفاضاً جديداً لسعر العملة الوطنية بنسبة تعدّت 23 في المئة خلال أسبوع عمل واحد، واستمرّ النمط عيْنه السبت ليقفز الدولار فوق مستوى 110 آلاف ليرة.
وبالتوازي، سجلتْ ميزانية مصرف لبنان تقلصاً اضافياً في حجم الموجودات الخارجية بمقدار 260 مليون دولار خلال النصف الأول من الشهر الحالي، ما أفضى الى انحدار الاحتياطيات السائلة من النقد الأجنبي لديه إلى ما دون 9.5 مليار دولار. أمّا على صعيدٍ سنويٍّ، فقد تراجعت قيمة الموجودات الخارجيّة لمصرف لبنان بنسبة 12.72 في المئة، أي ما يوازي 2.11 مليار دولار، مقارنةً بالمستوى الذي كانت عليه في منتصف شهر مارس من العام الماضي، والبالغ حينها 16.58 مليار دولار.
ولا يختصر الانهيارُ الدراماتيكي المستمر في سعر صرف الليرة وحده كل هذه التداعيات والمآسي التي يحصدها لبنان والمقيمون في ربوعه من مواطنين ونازحين. فما يحصل منذ بداية 2023، بات يتعدّى بنتائجه وبمؤشراته حصيلة أعوام الأزمة بكاملها على مدى ثلاث سنوات ونيف، وينذر بسرعته غير المسبوقة باضطراباتٍ اجتماعية وأمنية يُخشى أن تزعزع الاستقرارَ الهش.
وبينما تنحو السلوكياتُ العامة للسلطات إلى تكريس النموذج الفريد والأسوأ لمفهوم “فشل” الدولة الذي يقدّمه لبنان للعالم، يصحّ التقدير، وفق مسؤول مالي كبير، بأن “المخاوف من بلوغ حدود الارتطام الكبير تتحولّ تباعاً الى وقائع سوقية تضرب بحدةٍ بالغةٍ في منظومات أسعار الغذاء والسلع، وتستدركها الحكومة بزيادات مكافئة تصيب أكلاف الخدمات العامة.
وفي الترقبات المستجدة، يتجه لبنان الى التمركز القوي في المرتبة الأولى عالمياً في مؤشريْ انهيار العملة الوطنية والتضخم، وفق النمط اليومي لتطور المؤشريْن، وذلك بعدما سجّل ثاني أعلى نسبة تضخّم إسميّة في أسعار الغذاء حول العالم بين الفترة الممتدّة بين يناير 2022 ويناير 2023، محققاً رقم 139في المئة كنسبةِ تغيُّر سنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء، ومسبوقاً فقط من زيمبابوي التي سجلت نسبة 264 في المئة.
ففي عملية حسابية بسيطة، يمكن مطابقة حصيلة انهيار سعر صرف الليرة الذي بلغ، حتى الساعة، مستوى 111 ألف ليرة لكل دولار، انطلاقاً من نحو 42 الف ليرة في بداية السنة الحالية، مع نِسب الغلاء اللاحقة تلقائياً بلوائح أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية كافة التي يجري تسعيرها ووفق “رادار” الشاشات الهاتفية للمبادلات النقدية في الأسواق. فيما تتكفل التعديلات اليومية أيضاً على سعر دولار منصة صيرفة (تجاوز 80 الف ليرة) بتوليد زيادات سعرية متلاحقة على أكلاف الكهرباء العامة والاتصالات وباقات الانترنت وسواها من رسوم تخضع لمرجعية التسعير عينها.
ولم يكن عابراً أمس أن يغرّد الخبير المالي المختص في الاقتصاد التطبيقي في جامعة “جون هوبكنز” البروفسور ستيف هانكي عبر حسابه الخاص على موقع “تويتر”، كاتباً: حكومة ميقاتي تغشّ بينما بيروت تحترق. لا غذاء، لا كهرباء، لا ماء وعملة بلا قيمة. هل أحتاج لقول المزيد؟”.
وجاءت هذه التغريدة مرفقة برسم كاريكاتوري لرسام الكاريكاتور السويسري بيتر شرانك سبق أن نُشرت العام 2018 في “الايكونومست” مع تقرير بعنوان “النظام السياسي في لبنان يقود إلى الشلل والفساد”.