مع خروج سلامة من الحاكمية سنكون أمام سيناريو كارثي ربّما يخفيه سلامة عن السلطة أو يخفيه لها (لا فرق) ويتعلّق بقدرة “صيرفة” على العيش
عماد الشدياق | أساس ميديا
في الساعات الـ72 الماضية، أعطى مصرف لبنان إشارتين متناقضتين في الظاهر:
الأولى، وجّهها إلى الحكومة وتقضي برفض دفع رواتب القطاع العام إلّا على سعر منصة “صيرفة” البالغ 90 ألفاً (ثمّة مفاوضات بين الحكومة والمركزي حول الرقم ويقال أنّه قد يكون 75 ألفاً)، لكن على الرغم من كل هذا فإنّ الأمر يعني، أقلّه في الظاهر، أنّ حجم الدولارات لديه محدود أو ربّما لا يريد التفريط به سريعاً.
الثانية، أكّد فيها أنّ “صيرفة” مستمرّة كالمعتاد خلال شهر نيسان، نافياً في الوقت نفسه عبر بيان الشائعات كلّها، التي تساق عن حصر “صيرفة” بالشركات دون الأفراد. وهذا يعني أنّ المركزي يصرّ على الاستمرار بالتدخّل في السوق بائعاً للدولارات، وهي إشارة إلى
أنه يملك فائضاً لا بأس به من الدولارات.
نعم للقطاع الخاصّ.. لا للعامّ
التدقيق في هذين المعطيَين يظهر أنّ مصرف لبنان يقبض يده في الدفع إلى القطاع العام، لكنّه في المقابل يبسطها أمام القطاع الخاص… فما تفسير هذا؟ ولماذا في هذا التوقيت؟
لم يعد سرّاً أنّ مصرف لبنان يأتي بدولاراته من السوق، وحاجته الشهرية إليها تراوح بين 200 و400 مليون دولار، حسبما كشفت اعترافات الصرّافين الموقوفين الذين يتعاملون مع “المركزي”. هذه الدولارات يدفعها “المركزي” لتمويل “صيرفة”، ولدفع رواتب القطاع العام والتزامات الدولة.
عليه، يبدو أنّ ارتفاع سعر صرف الدولار إلى قرابة 145 ألف ليرة قبل نحو أسبوعين لم يكن إلّا محاولة من الحاكم رياض سلامة لجمع أكبر قدر ممكن من الدولارات من السوق. هذه الدولارات يخطّط سلامة لضبط سعر صرف الدولار بواسطتها، أطول وقت ممكن، إذا استطاع الصمود إلى نهاية حزيران، تاريخ انتهاء ولايته، وبالتالي أمامه 3 أشهر فقط، أي 90 يوماً. ويحاول الحاكم الحفاظ على استقرار الدولار خلال أشهره الثلاثة الأخيرة، وذلك لـ3 أسباب:
لسبب شخصيّ: يتعلّق بحاجته إلى تأمين خروج هادىء من مصرف لبنان بعد انتهاء ولايته في الأوّل من شهر تموز، إذ لا يُعقل أن يخرج من الحاكمية بعد تولّيه هذا المنصب لأكثر من 30 سنة، فيما الليرة تنهار بشكل يومي ومجنون!
لسبب سياسي: يحتاج سلامة إلى هذا الهدوء من أجل إقناع السلطة بأنّ رحيله Not a big deal، وأنّ أيّ شخصية تحلّ مكانه تستطيع أن تُمسك بزمام المبادرة وتستمرّ بتسيير العمل كالمعتاد. لكن يبدو أنّ السلطة غير مطمئنّة. ولهذا أرسل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يستفسر من نائب الحاكم الأول عمّا يمكن فعله بعد رحيل سلامة أو استقالته. وكان جواب الأخير أن لا حلول سوى “صيرفة”، ما دامت الإصلاحات معطّلة، ولهذا أيضاً يُسرّب أنّ الرئيس نبيه برّي لا يريد من نائب الحاكم الأول الاستمرار، كي لا “يرث” صلاحيات الحاكم. ومن المحتمل أن يطلب منه الاستقالة تزامناً مع رحيل سلامة من دون الاتفاق على البديل.
سلسبب نقدي: هو السبب الأهمّ، ويفيد بأنّ “صيرفة” غير قابلة للعيش والاستمرار بعد رحيل سلامة، بل تحديداً بعد انتهاء “موجة” بيعه للدولارات، التي يعتمدها حالياً.
سيناريو وفاة “صيرفة”
مع خروج سلامة من الحاكمية سنكون أمام سيناريو كارثي ربّما يخفيه سلامة عن السلطة أو يخفيه لها (لا فرق) ويتعلّق بقدرة “صيرفة” على العيش.
الاطّراد في “دولرة السلع” سيجعل أمراً حتمياً تبادل الدولار بين المواطنين، ومن بينهم أولئك الذين يتقاضون رواتبهم وأتعابهم بالدولار، وهم ليسوا قلّة، وهم من يحرّك “صيرفة” ومن يدفع بطريقة غير مباشرة رواتب القطاع العام والتزامات الدولة، وليس الرسوم والضرائب!
لا يكترث هؤلاء لسعر الصرف، باعتبار أنّهم يقبضون ويدفعون بالدولار، ولا حاجة لهم إلى الليرة. هذا السيناريو سيتّسع تباعاً وسيضمّ شرائح أوسع من المواطنين في حال عاد مصرف لبنان إلى شراء الدولارات من السوق وعدنا إلى مسلسل ارتفاع سعر الصرف.
في حينه ستكون أغلب القطاعات قد بدأت بالتوجّه بقوّة نحو دولرة الأسعار، مع العلم أنّ أغلب السلع والقطاعات باتت تبيع بالدولار الكاش: مازوت المولّدات، والبنزين في المحطات، فواتير المطاعم والمقاهي والفنادق، خدمات الإنترنت والمحلّات التجارية والسوبرماركت، حتى صهريج مياه الخدمة يقبض بالدولار!
عندئذٍ لن تستطيع أيّ شخصية ستحلّ مكان سلامة، حتى لو كانت تبرع بالشعوذة والسحر المالي الأسود، جمع الدولار من أجل دفع الالتزامات بالنيابة عن الحكومة، لأنّ “صيرفة” ستصبح عرجاء و”بإجر واحدة”: تبيع الدولارات عند تدخّل “المركزي” في السوق من أجل لجم سعر الصرف، من دون قدرتها على جمع الدولارات من الجهة الأخرى، لأنّ أحداً لن يكون له مصلحة باستبدال دولاراته بليرات يرفضها حتّى موظفو الدولة!
سيمسي “المركزي” كالخزّان المخروم، ينزف دولارات ولا يستطيع جمعها في المقابل. وقد تنهار إدارات الدولة بسبب عجز الحكومة ومصرف لبنان عن دفع التزاماته، وسينشأ “اقتصاد بالدولار” على حساب “اقتصاد بالليرة” لمن ليس لديه دولارات. وقد ندخل أيضاً في سيناريو استنزافيّ مدمّر لما بقي من احتياطات التوظيفات الإلزامية لدى مصرف لبنان، وربّما قد تلجأ السلطة إلى تسييل الذهب… فمن يدري؟
لهذا كلّه، ربّما يكون سلامة في صدد لعب أوراقه الأخيرة، وربّما نشهد استقراراً لسعر الصرف في حدود 100 ألف كما هو اليوم… حتى استقالته أو رحيله في تموز. حينها سيغلي الدولار في الكوز!