كتب فؤاد بزي في صحيفة “الأخبار”:
“40% من سكان لبنان يحصلون على مياه مجهولة المصدر، و67% من المقيمين في الشّمال مياههم غير مأمونة، تليهم محافظة البقاع بـ 48% من سكانها”، وفق تقارير أمميّة. وعليه، يحذّر مختصون في المياه من أن “هدوء” وباء الكوليرا في لبنان “مرحلي”، وأن الوباء “راجع” ربما، ويجزمون بـ”أنّ البكتيريا لا تزال هنا”، أما عدم رؤيتها فيعود إلى “غياب التمويل عن الأبحاث” ما يمنع متابعتها.
“في لبنان، نعيش نشوة النّصر الزائف”، يقول طبيب مختص في الأمراض الجرثومية، إذ إن وزارة الصحّة أعلنت “نهاية الكوليرا محلّياً منذ آذار 2023، وأوقفت العدّاد عند حوالي ثمانية آلاف حالة مشتبه فيها، 675 منها مؤكّدة”. إلا أنّ الكوليرا لا تزال هنا، ويتخوّف أستاذ العلوم الجرثومية في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد عز الدين من “إصابات محليّة تظهر على شكل حالات معزولة”، قد تؤدّي إلى بؤر انتشار محدودة.
صحيح أنه لم يرفع إلى الآن “العلم الأصفر”، الذي كان يشير في عصور ماضية إلى “وجود مصابين بالكوليرا في المنطقة”. إلا أنّ أكثر ما يتخوّف المتابعون للوباء منه في لبنان، هو مشهد الكوليرا في سوريا، حيث “تمّ الاشتباه في أكثر من سبعة آلاف حالة منذ مطلع عام 2023، مع تسجيل 7 وفيات”، وفقاً لتقرير برنامج WASH. إذاً، “من غير الممكن اعتبار لبنان في أمان تام، فالمريض الرقم صفر قد يدخل في أيّ لحظة حاملاً العدوى من جديد”، إذ إن حركة النازحين على الحدود بين البلدين لا تهدأ، وتهدّد بإعادة نقل الوباء إلى لبنان، خصوصاً أن المناطق السّورية اللبنانية المحاذية للحدود اللبنانية، في محافظات حمص وريف دمشق وطرطوس، تشهد انتشاراً محدوداً للوباء، وفقاً لخرائط منظّمة اليونيسف. فيما تشهد المناطق الأبعد، كحلب وإدلب، تفشياً كبيراً بعد الزلزال المدمر في شباط الماضي.
يحسم اختصاصي الأمراض الجرثومية الدكتور عبد الرحمن البزري بأنّ “الكوليرا مستوردة إلى لبنان من سوريا وشمال العراق، وبعض الدول الآسيوية، ولذلك يجب أن تبقى عملية الترصّد الوبائي على حذر”، لافتاً إلى أن “مكافحة الكوليرا لم تأخذ أشكالاً مستدامة، بل اقتصرت على توزيع الكلور لتعقيم المياه، وتلقيح المقيمين في المناطق السّاخنة”. ويضيف: “الجرعة الواحدة من لقاح الكوليرا كافية لاحتواء الوباء فقط، فيما بروتوكول التحصين ينص على جرعتين”. والجرعة الواحدة “تؤمّن حماية موقّتة تراوح بين 6 و9 أشهر، وبالتالي من أخذ جرعةً واحدةً فلن يكون محصّناً لسنوات. فالهدف من اللقاح تحقّق، وتمّ احتواء الوباء، ومنع من الانتشار إلى مناطق أخرى”.
من جهة، يطمئن البزري إلى “القضاء على موجة الكوليرا”، ومن جهة أخرى يحذر من مصدر البكتيريا “القادمة من سوريا، واهتراء البنية التحتيّة اللبنانية لناحية شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء غير المؤمّنة نظامياً”. وبالتالي المياه اللبنانية، سواء المستخدمة للاستهلاك البشري أو الحيواني أو الزراعي لا تزال في خطر. وقد يؤدّي تلوّثها إلى “نشوء أمراض كثيرة، من بينها الكوليرا”.
تأثير البكتيريا شبه المعدوم حتى الآن يعود لسببين، وفقاً للمختصّين. الأول عودة الكهرباء، وما يرافقها من إعادة تشغيل محطات الضخ التي تعقّم المياه الآتية عبر أنابيب مصالح المياه قبل توزيعها، والثاني كثرة الموارد المائية حالياً، ما يؤدّي إلى التخفيف من تركيز الكوليرا في المياه. إلا أنّ الوضع الحالي لن يدوم كثيراً، فمع شح المياه صيفاً، سيعود الناس لاستخدام المياه السّطحية (الأنهار والبحيرات) الملوّثة بسبب تعطل محطات معالجة الصرف الصحي التي تصبّ مباشرةً في هذه المجاري. ويجزم مدير مصلحة مياه الشمال خالد عبيد بـ”تلوث معظم الينابيع التي يعلوها سكن في لبنان”، داعياً إلى “عدم الاستخفاف بالتلوث مهما كانت نسبته بسيطة”، مؤكّداً أنّ “المياه المكشوفة غير صالحة للشرب أبداً، فالناس يرمون كلّ المخلّفات فيها، وحتى الآبار الجوفية ليست سليمة”. أمّا مؤسّسات المياه، فـ”تعتمد على الكلور للتعقيم، ومراقبة خطوط الجر كي لا يجري فيها أيّ تلوث، كأن تختلط بمياه الصّرف الصحي”.
التعقيم بالكلور: الجانب الآخر المظلم
تشكّل مركبات الكلور الخيار الأول عالمياً لتعقيم المياه بجميع أنواعها واستخداماتها، المخصّصة للشرب أو للخدمة المنزلية وصولاً إلى مياه المسابح. ومنذ أكثر من 200 عام، تُستخدم مواد الكلور للوصول إلى الإبادة التامة لكلّ أنواع البكتيريا والفيروسات. التوصية الأولى باستخدامه كمعقّم كانت مع الطبيب الأميركي أوليفر ويندل هولمز (1809-1894)، الذي أوصى القابلات في المستشفيات بغسل أيديهن بأحد مركّبات الكلور للتخفيف من انتشار حمى الولادة الناتجة عن أحد أنواع البكتيريا.
رخص ثمن الكلور، وسهولة استخدامه، وتوافره، أمور جعلت منه خياراً ممتازاً للتعقيم. في لبنان، مثلاً، تقوم مصالح المياه بإضافته في آخر مراحل التعقيم إلى المياه بكميات تتفاوت بحسب الاستخدام الأخير للماء، ففي المياه المخصّصة للشرب يكون تركيزه أقل من تلك المخصّصة للخدمة.
“مرحلة إضافة الكلور” أكثر ما تشدّد عليها خبيرة جودة المياه الدكتورة رنا شهاب، إذ تشير إلى أنّ “هذه العملية تتم بعد تكرير المياه، وإزالة معظم المركبات العضوية والمعادن منها”. وتضيف: “التفاعلية العالية للكلور تنتج مركبات غير مرغوب بها، قد يتسبب تراكمها بأمراض مستعصية. فمركّباته تتفاعل مع كلّ شيء تقريباً، ولا تختار البكتيريا مثلاً دون المركّبات الطبيعية الأخرى”. ولذلك، تشدد شهاب على أنّ “إضافة مركبات الكلور تتمّ في آخر عمليات التكرير، بعد إزالة معظم المواد الملوّثة من المياه”.
في لبنان، “لا يُحترم هذا البروتوكول، إذ يضاف الكلور إلى خزّانات المياه مباشرة، رغم احتوائها على مياه غير مكرّرة”. وتستشهد شهاب بدراسة فرنسية أجريت على “المنقذين البحريين” الذين يعملون بشكل يومي قرب المسابح، تبيّن خطر مركّبات الكلور على الصحة، إذ “تمّ تشخيص أمراض صدريّة وتنفّسية لدى هؤلاء، وحتى سرطانات في الرئتين أو المريء، نتيجة تنشّقهم الدائم لمركّبات الكلور المركّزة”.
وما يجري اليومَ في لبنان، يمكن تصنيفه تحت خانة “سوء الاستخدام”، إذ تجري إضافة كميّات من الكلور أكبر من الحاجة في خزّانات المنازل، أو عند تعقيم الخُضر والفواكه. وتحذر شهاب من “استخدام أقراص التعقيم المخصّصة للمسابح في الخزّانات المنزلية، إذ تحتوي الأخيرة كميات مياه أقل بكثير من المسابح، ما يزيد من تركيز مادة الكلور بشكل مضرّ بصحة الإنسان، لدرجة يصبح معها الاستحمام أمراً خطراً”، وبالتالي، تنصح شهاب بـ”الابتعاد عن استخدام أقراص تعقيم المسابح في خزّانات الأبنية لما تحتويه من مركّبات سامة ذات تركيز عالٍ، والاستعاضة عنها بالكلور المنزلي”.
11 محطة صرف صحي من 78 تعمل جزئياً
لم يغيّر وباء الكوليرا العام الماضي من واقع معالجة مياه الصّرف الصحي في لبنان. فـ”من بين 78 محطة لمعالجة مياه الصّرف الصحي، بإمكانها معالجة 664 متراً مكعباً يومياً، هناك 11 محطة تعمل فقط”، بحسب تقرير حماية البيئة والتوقّعات المستقبلية الصّادر عن مجموعة منظمات تابعة للأمم المتحدة. كما أنّ المحطات العاملة لا تعالج المياه بشكل تام، بل تزيل منها الشوائب الصلبة فقط، وتعيدها إلى المجاري والمسطّحات المائية. أمّا الـ 133 منطقة صناعية في لبنان، فلم يتم تركيب أيّ محطة معالجة مياه صرف فيها.
في البقاع مثلاً، هناك 5 محطات لمعالجة مياه الصّرف الصحي (إيعات، زحلة، جب جنين، صغبين وأبلح). “الأخيرة تعمل بكامل طاقتها”، وفق رئيس مصلحة الاستثمار والصيانة في مصلحة مياه البقاع خليل عازار الذي يشكو من التعدّيات على المحطات مثل “سرقة خط الكهرباء الخاص بمحطتي جب جنين وصغبين، والاستفادة من الكهرباء الواردة منه في توزيع الاشتراكات، ما يكلّف المصلحة 20 ألف ليتر من المازوت شهرياً لتشغيل المحطات”. أمّا محطتا إيعات وزحلة، فلا تزالان معطّلتين، مع وجود مشاريع مع الجهات الأممية لإعادتهما إلى العمل، ومحطة إيعات بحاجة إلى إعادة تأهيل.