أفواج الإطفاء تستغيث: هل تصبح الخدمات مدفوعة؟
نهاية الأسبوع الماضي، سلّم فوج إطفاء طرابلس مفاتيح آلياته لرئيس اتحاد بلديات الفيحاء، معلناً توقّفه نهائياً عن تقديم خدمات الإطفاء والإسعاف والإنقاذ في الشمال. نهاية تراجيدية تهدّد مصير الأفواج الأخرى في صيدا وبيروت والضاحية الجنوبية وبقية المناطق. عليه، باتت السلامة العامة في خطر ما لم يُصَرْ إلى إغاثة هذه الأفواج
يروي أحد العناصر في فوج إطفاء طرابلس كيف تعلّم قواعد الإطفاء: «عندما رنّ الجرس منذراً باندلاع حريق، أمرني مسؤول الفريق أن أستعدّ من دون أن أعرف حتى كيف يجهّز رجل الإطفاء نفسه، قلت له: لكنني لا أدري كيف أطفئ حريقاً، فردّ عليّ: نعلّمك على الطريق». هكذا كانت قلة التدريب وضعف التنسيق والإهمال تنخر في أفواج الإطفاء الخمسة في لبنان (بيروت، صيدا، طرابلس، الضاحية الجنوبية واتحاد بلديات قضاء بنت جبيل في برعشيت)، من دون التقليل من أهمية ما قام به عناصر هذه الأفواج طوال سنوات الحروب المتتالية ولا من تضحياتهم.
تتبع أفواج الإطفاء للبلديات، ولا ربط مباشراً لها بالدولة لجهة التمويل والتجهيز والتدريب، وما من جهة تتولى الربط والتنسيق بين الأفواج وبينها وبين المديرية العامة للدفاع المدني، لذلك، حصل في أكثر من مرة تضارب وصل إلى حدّ التصادم. أما تجهيزاتها فشديدة البدائية مقارنةً بالتجهيزات المتطوّرة في عالم الإطفاء الذي بات يعتمد على روبوتات في الأماكن الخطرة، وأجهزة تحديد المواقع «جي بي أس» لتتبّع العناصر أثناء الحرائق، وكاميرات حرارية كاشفة لدرجات الحرارة، وغيرها. فضلاً عن النقص الفادح في أبسط مقوّمات الإطفاء والإسعاف والإنقاذ. «ينقصنا كلّ شيء»، يقول المعاون الإطفائي في فوج إطفاء طرابلس حاتم عبوشي رداً على سؤال «الأخبار» حول تجهيزات المركز. فـ«أنا منقذ جبليّ لا أملك حبالاً مثل الجندي من دون سلاح، ورجل إطفاء أملأ صهاريج المياه في الطريق، وأدخل الحريق ببدلة مموّهة، هي ذاتها التي ألبسها في المناسبات. وألفّ حول وجهي منشفة لأستنشق أقلّ قدر من الدخان». بعد انفجار مرفأ بيروت وتسليط الضوء على أفواج الإطفاء وحالها المزرية، «أرسلت إلينا الأمم المتحدة وأفواج إطفاء في كندا وإيطاليا عتاداً منتهي الصلاحية كقوارير أوكسيجين كان قد صدر قرار بإتلافها قبل عامين من إرسالها».
بعد الأزمة الاقتصادية، أضيفت إلى ما سبق أزمة الرواتب والمخصّصات المالية والتقديمات الصحيّة والمدرسية وتأمين المازوت للآليات، فيما صارت صيانة الأعطال أقرب إلى المستحيل. لا يوفّر رئيس شعبة العلاقات العامة في فوج إطفاء بيروت علي نجم مناسبة للشكوى من الدرك الذي وصل إليه الفوج التابع لبلدية العاصمة المفترض أنها أغنى بلديات لبنان، «من تدنّي رواتب رجال الإطفاء والموظفين رغم ما طرأ عليها من زيادات، إلى فقدان التأمين الصحي بعدما تدنّت المخصصات المالية، من تعاونية الموظفين ومن نظام الحماية الصحي التابع لبلدية بيروت، إضافة إلى قلّة التجهيزات وبدائيتها ولا سيّما معدات الإنارة وأجهزة الإنذار والاتصال ومعدات السلامة العامة، عدا غياب البزّات المقاومة للحريق والحرارة، وصعوبة صيانة الآليات والمعدات وتأمين قطع الغيار»، مشيراً إلى أن «أحدث سيارة إطفاء في الفوج تعود إلى عام 2001».
تنسحب التحديات التي يواجهها فوج إطفاء بيروت على أحوال الأفواج الأخرى. فوج إطفاء طرابلس توقّف عن العمل في 17 آب الماضي، وسلّم، أول من أمس، مفاتيح آليات الإطفاء إلى رئيس اتحاد بلديات الفيحاء حسن غمراوي بعدما استنزف كل الطرق للاستمرار. فرغم تهديده قبل عشرة أشهر بالتوقف عن العمل ووضع آليات الإطفاء أمام باب المركز، «كوسيلة للضغط على المسؤولين، لم نتوقف فعلاً عن تأدية مهامنا من تحت الطاولة»، بحسب حاتم عبوشي. كان المطلب تسديد المستحقات المتراكمة على البلديات وتبلغ نحو 100 مليون ليرة للعنصر الواحد قبل أن يخسر الموظفون بدلات النقل والأخطار. بعدها، ومنذ خمسة أشهر، لم يتقاضَ عناصر الفوج أيّ بدل مادي يُذكر. «صبرنا كرمى للناس إلى أن أصيب عنصران خلال إطفاء حريق من دون أن يحصلا على الطبابة. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير. صارت مواجهة الأخطار ضرباً من الجنون بعدما سيطر الخوف على العناصر من إصابة لا يطبّبها أحد أو وفاة تترك عائلة من دون تعويضات ورواتب. لم نجد سبباً يدفعنا لمواصلة عملنا، فأعلنّا التوقف نهائياً».
أسفر الضغط الذي قام به فوج إطفاء طرابلس عن عرض بلدية طرابلس تسديد 3 مليارات ليرة من أصل 35 ملياراً مجموع الأموال المتراكمة عليها، فرفض الفوج العرض وطالب بتسديد 50 مليون ليرة للعنصر الواحد بدلاً من 100 مليون، مع تعهّد بصرف الرواتب الشهرية لافتتاح المركز من جديد، وهو ما لم يحصل. الأزمة التي انفجرت في وجه الفوج وأبناء الشمال مردّها الأول إلى الفساد والتجاذبات السياسية. يروي عبوشي حكاية اتحاد بلديات الفيحاء مع شركة «لافاجيت» الملتزمة برفع النفايات في مدن الاتحاد وكيف انتهت على حساب الفوج، «بعدما تأخّر الاتحاد في صرف مستحقات الشركة، أصدر وزير المالية آنذاك جهاد أزعور قانون اقتطاع مستحقات «لافاجيت» التي يملكها شقيقه مباشرة من وزارة المالية، حتى صارت 80% من موازنة الاتحاد تذهب إلى الشركة ولا يبقى للفوج غير 20% منها. كانت بلدية طرابلس تغطّي العجز الذي مُني به الفوج، حتى وقعت المشكلات السياسية على زعامة الاتحاد فتوقفت بلدية طرابلس عن تحويل الأموال، قبل أن تدخل في عجز مالي جراء الأزمة الاقتصادية».
فوج الضاحية «مربى الدلال»
الأزمة الاقتصادية، على صعوبتها، لم تلحق الضرر بفوج إطفاء الضاحية بقدر الضرر الذي لحق به جراء حريق مستودع الأقمشة على طريق المطار الشهر الماضي. الفوج «المدلّل»، كما يطلق عليه عناصره نظراً إلى التجهيزات التي يتميز بها عن غيره من الأفواج وفرق الإطفاء، حلّت به نكبة حقيقية بعد 15 يوماً على إطفاء الحريق. في مركز الفوج قواذف مياه وخراطيم أذابها الحريق وبدلات متفحّمة مكدّسة في إحدى الزوايا، ينظر إليها مسؤول فريق الإطفاء سامر عقيل معلّقاً: «لن يعوّضوا لنا شيئاً»، مشيراً إلى أن «العناصر خسروا بدلاتهم الاحتياطية التي يبلغ سعر الواحدة منها 4500 يورو، لأنها تحمي من درجة حرارة تبلغ 550 درجة مئوية». يقدّر رئيس الفوج حسين كريم خسائر المركز من التجهيزات بـ«80 ألف دولار، بعدما شمل التلف بشكل أساسي خراطيم المياه والقواذف والمراوح التي تسحب الهواء الساخن نظراً إلى الضغط الكبير على استعمالها، عدا أجهزة التنفس والتجهيزات الفردية مثل الأجهزة اللاسلكية والبدلات وأجهزة الإنارة». رغم ذلك، يؤكد كريم أنّ «المركز جاهز من خلال 100 عنصر وموظّف إداري للاستجابة لأي حريق قد يندلع في نطاق عمله».
في ظل الأزمات المالية في المجالس البلدية، يحظى الفوج شأنه شأن فوج برعشيت (وقريباً فوج بعلبك – الهرمل) بدعم من الهيئة الصحية الإسلامية، يشمل الرواتب وبعض التجهيزات، وهو ما لا يتوافر لفوجَي إطفاء بيروت وصيدا اللذين ما من شيء يضمن ألا يُساقا إلى النهاية ذاتها التي وصل إليها فوج إطفاء طرابلس، فيما الأفواج ومشاكلها في أسفل اهتمامات الدولة، كما كل شيء آخر، ما دفع البعض إلى طرح حلول للخروج من الأزمة، من بينها جعل خدمات الإطفاء والإسعاف والإنقاذ «مدفوعة، إما في لحظة الحادث، أو من خلال تخصيص صندوق يُغذّى من رسوم سنوية شبيهة بالرسوم البلدية».
الدفاع المدني يعيش على الهبات
قالت مصادر في المديرية العامة للدفاع المدني لـ«الأخبار» إن «عدداً كبيراً من الآليات التابعة للمديرية أصبحت خارج الخدمة بسبب أعطال ميكانيكية وعدم القدرة على كلفة إصلاحها»، مشيرة إلى هذه الآليات «بمجملها قديمة، مضى على تاريخ وضعها في السير أكثر من عشرين عاما، حالها حال بقية العتاد والتجهيزات»، فيما تعاني المديرية أيضاً من أزمة محروقات «نتعاون مع الجيش اللبناني لتأمينها للآليات بكميات محدودة».
ويبلغ عدد عناصر الدفاع المدني 2563 (439 دائما و2124 متطوعاً مثبتاً)، إضافة إلى 6123 متطوعاً إختيارياً. وبحسب المصادر، تشكّل الهبات من جهات محلية ودولية «الرافعة الأساسية التي تمكن المراكز من متابعة عملها بانتظام وتلبية نداءات الإغاثة والتدخل الفوري، فيما لم تعد الاعتمادات الملحوظة في الموازنة تكفي لسدّ الاحتياجات».
زينب حمود – الاخبار