الإنفاق من حقوق السحب الخاصة بين النصّ والواقع
منذ أكثر من سنتين استلم لبنان حصّته من حقوق السحب الخاصة التي قرّر صندوق النقد الدولي توزيعها على الدول الأعضاء لدعم اقتصادات هذه الدول، فبلغت حصة لبنان منها ما يعادل حوالي /1,140/ مليار دولار أميركي.
تعدّدت الآراء بشأن المرجع الصالح للتصرف بهذا المبلغ، فقال أحد الخبراء الاقتصاديين، جان طويلة، إن هذا المرجع هو مصرف لبنان والحكومة على السواء تحت رقابة ديوان المحاسبة (جريدة النهار بتاريخ 2 نيسان 2023)، وتقدم بعض النواب باقتراح قانون معجل مكرّر يرمي إلى تنظيم التصرف بهذه الحقوق فأسقطت الهيئة العامة صفة العجلة عنه.
وإن كان حق إبداء الآراء متاحاً للجميع، إلا أن إبداء الرأي في مسألة سبق للمشترع أن نظّمها يصبح من قبيل الاجتهاد في معرض النص، وقد يوقع المجتهد في الخطأ وربما الخطيئة المميتة.
لذا لا بدّ من التوقف على الأحكام التي ترعى هذا التصرّف الذي يمكن تعريفه قانونياً بأنه إنفاق عام تمّت تغطيته بمأخوذات من المبالغ الناتجة عن حقوق السحب الخاصة:
أولاً: في الأحكام الدستورية والقانونية
1 – نصت المادة 83 من الدستور على ما يلي: كل سنة، في بدء عقد تشرين الأول، تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة ويقترع على الموازنة بنداً بنداً.
2 – ونصت المادة الثالثة من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: الموازنة صكّ تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق.
3 – ونصت المادة 51 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: تقيّد الواردات المقبوضة برمّتها في قسم الواردات من الموازنة.
4 – ونصت المادة 242 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: يجب إيداع جميع الأموال العمومية المحدّدة في المادة 2 من هذا القانون في الحساب المفتوح لدى مصرف لبنان باسم الخزينة العامة.
5 – ونظراً للصفة التقديرية للموازنة، وعدم إمكانية ارتقاب جميع النفقات عند إعدادها، وحتى حين إقرارها:
1 – فقد لحظت المادة 85 من الدستور إمكانية تعديل الموازنة بعد إقرارها حين نصت على ما يلي: لا يجوز أن يفتح اعتماد استثنائي إلا بقانون خاص.
أما إذا دعت ظروف طارئة لنفقات مستعجلة فيتّخذ رئيس الجمهورية مرسوماً، بناء على قرار صادر عن مجلس الوزراء، بفتح اعتمادات استثنائية أو إضافية وبنقل اعتمادات في الموازنة على أن لا تتجاوز هذه الاعتمادات حدّاً أقصى يحدّد في قانون الموازنة. ويجب أن تعرض هذه التدابير على موافقة المجلس في أول عقد يلتئم فيه بعد ذلك.
2 – كما لحظت المادة 12 من قانون المحاسبة العمومية إجازة فتح اعتمادات في الموازنة قبل إقرارها حين نصّت على ما يلي: لا تفتح الاعتمادات إلا ضمن نطاق الموازنات المذكورة في المادة 6. غير أنه يجوز بصورة استثنائية فتح اعتماد في موازنة ما قبل تصديقها شرط أن يُدوَّن فيها.
ثانياً: في الوقائع
1 – على أثر جائحة كورونا وما خلّفته من آثار سلبية على الاقتصادات العالمية، قرّر مجلس المحافظين في صندوق النقد الدولي توزيع مخصّصات حقوق السحب الخاصة من أجل دعم سيولة البلدان الأعضاء ولا سيّما الفقيرة منها، فكانت حصة لبنان 607,2 ملايين وحدة من وحدات حقوق السحب باعها لقاء حوالي /1,140/ مليار دولار أميركي.
2 – أودعت الحكومة هذا المبلغ في حساب خاص فُتح لدى مصرف لبنان لهذه الغاية.
3 – بتاريخ 11 نيسان 2022 كان رصيد هذا المبلغ /1.139.951.437,98/ دولار أميركي، أي حوالي /1,140/ مليار دولار أميركي، أي لم تكن الحكومة قد تصرّفت بأي مبلغ منه.
4 – منذ 12 نيسان 2022 بدأ التصرّف بالمبالغ الناتجة عن حقوق السحب، وما زال، لدرجة أن رصيد هذه المبالغ لم يعد يتجاوز حالياً /125/ مليون دولار أميركي (الشرق الأوسط 29 أيلول 2023).
5 – في لائحة تتضمّن ما تمّ التصرف به لغاية 8 كانون الأول 2022، يتبيّن بأن مبلغاً يزيد على /636,1/ مليون دولار أميركي قد تمّ التصرف به لتغطية النفقات التالية:
– الكهرباء: 221,59 مليون د.أ.
– الأدوية: 190,05 مليون د.أ.
– القمح: 112,08 مليون د.أ.
– القروض: 95,54 مليون د.أ.
– جوازات السفر: 13,24 مليون د.أ.
– تكاليف حقوق السحب: 4,09 ملايين د.أ.
– رسوم لوزارة العدل: 0,683 مليون د.أ.
وقد برّرت الحكومة هذا الإنفاق بأنه تمّ في سبيل تحقيق المصلحة العامة.
ثالثاً: حساب الدولة لدى مصرف لبنان
1 – نصّت المادة 242 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي: يجب إيداع جميع الأموال العمومية المحدّدة في المادة 2 من هذا القانون في الحساب المفتوح لدى مصرف لبنان باسم الخزينة العامة.
والمقصود بهذه الأموال أموال الدولة والبلديات، وأموال المؤسسات العامة التابعة للدولة أو للبلديات، وأموال الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية، والمقصود بحساب الخزينة العامة الحساب رقم 36.
2 – وبموجب القانون رقم 49/87 الصادر بتاريخ 21 تشرين الثاني 1987 أعطيت الإدارات العامّة ذات الموازنات الملحقة والمؤسّسات العامّة والبلديّات وسائر الأشخاص المعنوييّن ذوي الصفة العموميّة، حق فتح حسابات جارية مستقلّة بهم في مصرف لبنان، فأجيز لكل من وزارة الاتّصالات (في ما يتعلّق بالاتّصالات فقط)، ومديريّة اليانصيب الوطنيّ، والمديريّة العامّة للحبوب والشمندر السكّريّ، فتح حسابات خاصّة بها لدى مصرف لبنان.
3 – لكنّ الحكومات المتعاقبة تمادت في مخالفة أحكام القانون 49/87 المذكور وأجازت للوزارات، وحتّى لبعض الوحدات في الوزارات، وحتّى لموظفين في الوزارات، فتح حسابات خاصّة بها وبهم لدى مصرف لبنان، حتّى أصبح لكلّ وزارة أكثر من حساب لدى هذا المصرف الذي كان يفترض بالقيّمين على إدارته أن يرفضوا فتح حسابات لديه بطريقة مخالفة لأحكام القانون، وهذا الأمر أدّى إلى تعدّد الحسابات وتعذّر توحيد نتائجها السنويّة.
4 – وبموجب المادة 77 من قانون موازنة العام 2019 ألغيت الموازنات الملحقة وكان من المفترض أن تكون الحسابات الخاصة بها لدى مصرف لبنان قد ألغيت ودمجت أرصدتها في حساب الخزينة رقم 36.
رابعاً: في النتائج
يستفاد ممّا تقدم:
1 – أن ما يجب أن يتضمّنه قانون موازنة الدولة هو جميع نفقات الدولة من جهة وجميع وارداتها من جهة ثانية، لا بعض هذه النفقات، ولا بعض هذه الواردات.
2 – أن لا جباية ولا إنفاق إلا بإذن من السلطة التشريعية ومن ضمن موازنة مقرّرة حسب الأصول. وكل تدبير مخالف يعتبر تجاوزاً لحد السلطة ويُعرّض مرتكبه للمساءلة والمحاسبة بالتالي.
3 – أن إيداع المبالغ الناتجة عن حقوق السحب والبالغة حوالي /1,140/ مليار دولار أميركي في حساب خاص فتح لدى مصرف لبنان مخالف لأحكام المادة 83 من الدستور التي تكرس مبدأ شمول الموازنة، أي إدخال جميع واردات الدولة فيها، ولأحكام المادتين الثالثة والحادية والخمسين من قانون المحاسبة العمومية.
4 – أن فتح حساب خاص لدى مصرف لبنان لإيداع المبالغ الناتجة عن حقوق السحب فيه مخالف لأحكام المادة 242 من قانون المحاسبة العمومية المعدلة بموجب القانون رقم 49/87 وبموجب المادة 77 من قانون موازنة العام 2019، والتي تكرّس مبدأ وحدة الصندوق لدى الدولة كشخص عمومي، وهو الحساب رقم 36 الذي يجب أن تُورَّد إليه جميع إيرادات الدولة وتُسدّد منه جميع نفقاتها دون استثناء.
5 – أن تعديل الموازنة لا يمكن أن يتمّ إلا بقانون، سواء أكانت قد أقرت، أم هي في طور الإعداد والإقرار.
6 – أن الصلاحية الاستثنائية الممنوحة لرئيس الجمهورية بفتح اعتمادات لمواجهة نفقات طارئة ومستعجلة معلقة على توفر ثلاثة شروط متلازمة:
– كون مجلس النواب خارج دورات الانعقاد العادية والاستثنائية.
– عدم تجاوز قيمة الاعتمادات المجاز فتحها حداً أقصى يُعيَّن سنوياً بموجب قانون الموازنة.
– عرض التدبير المتّخذ على مجلس النواب في أول عقد يلتئم فيه.
7 – أن الحكومة، قد قامت بتحديد نفقات خارج نطاق الموازنة وقامت بتغطيتها من أصل إيرادات أبقتها خارج نطاق الموازنة أيضاً، ما يشكّل مخالفة صريحة لأحكام المادتين 83 و 84 من الدستور، ويقع تحت طائلة أحكام المواد 70 و71 و 72 منه.
8 – أن الحكومة، على جاري عادتها بالمخالفة، قد قرّرت فتح حساب خاص لدى مصرف لبنان لإيداع المبالغ الناتجة عن حقوق السحب، فخالفت أحكام المادة 242 من قانون المحاسبة العمومية وتعديلاتها، ما يقع تحت طائلة أحكام المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي رقم 82 الصادر بتاريخ 16 أيلول 1983 وتعديلاته (تنظيم ديوان المحاسبة).
9 – أن التذرّع بالمصلحة العامة يكون من الأسباب الموجبة لتعديل الموازنة سواء بعد إقرارها بفتح اعتمادات إضافية، أو قبل إقرارها بفتح اعتمادات في الموازنة قبل تصديقها، ولا يمكن توسل هذا التذرّع لتبرير ارتكاب المخالفة أو للحد من المسؤولية عن ارتكابها.
ابراهيم كنعان – نداء الوطن