“قصة” القرار السياسي بوقف المضاربة على الليرة
لن يكون الاختبار الذي سيتعرّض له اللبنانيون في الاسابيع المقبلة سهلاً، في حال صحّت «التنبؤات» في شأن استمرار الفراغ الرئاسي الى ما بعد نهاية العام 2023. وهناك تساؤلات متعددة في شأن مصير الليرة، والوسائل التي يمكن اعتمادها للحفاظ على الاستقرار النقدي الذي وعد به حاكم المركزي بالانابة.
حتى الآن، أنجزت ادارة مصرف لبنان بإشراف الحاكم بالانابة وسيم منصوري، «واجباتها» على اكمل وجه لجهة وقف تمويل الدولة من اموال الناس المتبقية، والتنسيق مع وزارة المالية للحفاظ على حجم الكتلة النقدية بالليرة مضبوطة في الاسواق. وقد أدّى ذلك الى استقرار سعر الصرف، بما انعكس ايجابا على الوضع المعيشي للمواطن. لكن الاستقرار النقدي القائم لن يساهم لوحده في تحسين ظروف الحياة، ولا في اعادة الاقتصاد الى سكة التعافي. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، سيكون من الصعب جداً الحفاظ على هذا الاستقرار لفترة طويلة. وبالمناسبة، هناك من يطرح تساؤلات في شأن الاستقرار النقدي القائم. بمعنى انه قد لا يكون مستغرباً ان يحظى سوق الصرف بفترة استقرار نسبي، عندما يتوفر الدولار لتلبية الطلب، في موازاة تصغير الكتلة النقدية بالليرة، لحجب ادوات المضاربة عن السوق. ومع ذلك، فإنّ سعر الصرف ليس مستقراً فحسب، بل شبه ثابت بما يشبه فترة التثبيت، ايام كانت الليرة مدعومة من قبل مصرف لبنان. فهل صحيح ما يهمس به بعض المشككين، لجهة انّ ثبات الليرة على سعرها، يرتبط، بالاضافة الى عامل تَوفُّر الدولارات بعد موسم سياحي ناشط، وبعد ضخ كميات كبيرة في تموز الماضي، بعامل توقّف المضاربة بقرار سياسي؟ وهل يوجد فعلاً طرف سياسي قادر على اطلاق كلمة سر، يمنع بموجبها عمليات المضاربة التي كانت تجري في مرحلة عمل منصة «صيرفة»؟
السؤال مطروح من دون ان يعني ذلك وجود معطيات ملموسة تسمح بدعم هذه الشكوك. لكن، البعض يعتبر ان الثقة التي تحدث بها وسيم منصوري حيال مَنع انهيار الليرة مجدداً، في معرض ردّه على سؤال في شأن احتمال ارتفاع الدولار مع بدء بلومبرغ في عملها في لبنان كمنصة تداول، دفعت المشككين الى اعتبار هذا الموقف بمثابة دليل اضافي على وجود قرار سياسي بوقف المضاربة. وعندما يقول منصوري انه لن يسمح بعودة الدولار الى الارتفاع، فهذا الموقف لا يمكن تفسيره، وفق المشككين، سوى بنقطتين:
اولاً – وجود قرار سياسي بوقف المضاربة، مع الاخذ في الاعتبار ان عنصر المضاربة هو العامل الرئيسي في ارتفاع الدولار.
ثانياً – وجود قرار غير مُعلن لدى مصرف لبنان بالتدخّل والدعم اذا اقتضى الامر، لمنع عودة الدولار الى الارتفاع.
في القراءة المنطقية لهذه الاجواء، وسواء كانت مسألة القرار السياسي بمنع المضاربة صحيحة ام لا، ينبغي التأكيد ان المضاربة لا يمكن ان تكون المسؤولة عن انهيار الليرة. وما جرى منذ نهاية العام 2019 حتى اليوم، لا يمكن سوى أن ينعكس على سعر العملة الوطنية وقدرتها الشرائية. اما المضاربة، فإنها تأتي كعنصر اضافي يساهم في اضطرابات سوق الصرف، ليس إلا.
كذلك فإنّ القول بوجود قرار ضمني لدى المركزي بدعم الليرة اذا اقتضى الامر، لا يبدو بدوره منطقياً، بعد المواقف الواضحة والصريحة لمنصوري بالامتناع عن صرف اي دولار من اموال المودعين المتبقية في المركزي. وفي الاساس، فإنّ الاستعانة بمنصة بلومبرغ انما يهدف الى تحرير سعر الصرف، وليس العكس.
أما لماذا يقول منصوري انه لن يسمح، مع زملائه في حاكمية مصرف لبنان، بعودة الدولار الى الارتفاع، فالجواب يكمن في وجود تصميم لدى حاكمية المركزي بمنع نمو الكتلة النقدية بالليرة. كما يستند الى تفهّم وتجاوب وزارة المالية في التنسيق مع المركزي حول هذه المسألة.
ومع ذلك، لن تكون وعود منصوري كافية، لأن استقرار الليرة لا يمكن ان يستمر اذا استمر الوضع الاقتصادي بالتراجع، واذا استمر العقم على مستوى القرارات السياسية لإقرار القوانين الضرورية لتمهيد الطريق امام مسيرة الانقاذ، واذا استمر الفراغ على المستوى رئاسة الجمهورية. ومع الاسف، كل الجهود التي تُبذل في الادارة النقدية، لن تجدي نفعاً. وهذا الواقع يعترف به مصرف لبنان يومياً، ويؤكد لمن يسأل ان المسألة عند الدولة، وليست لدى المركزي. وهذا يعني ان كل التأكيدات ليست سوى اعلان نيات، لا يمكن ترجمتها على ارض الواقع، اذا لم يتغيّر المشهد السياسي العام، وتبدأ مرحلة جديدة تتحمّل فيها الدولة (بشقيها التنفيذي والتشريعي) مسؤولياتها لإخراج البلد من أزمة سوف تتفاقم وتصبح أشدّ تعقيداً، كلما مرّ وقت اضافي من دون معالجات وحلول شاملة.
أنطوان فرح – الجمهورية