خريطة طريق لعودة الحياة إلى القطاع المصرفي
يقدّم خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي في هذا المقال خريطة طريق يقترح تطبيقها للوصول إلى عودة الثقة بالقطاع المصرفي. وهي اقتراحات من شأنها أن تعيد الودائع إلى مالكيها في لبنان. طبعاً من دون إيذاء المصارف أو إقفالها. ولتوزيع الخسائر بشكل عادل بين الحكومة والمصارف ومصرف لبنان.
عندما كانت المصارف بخير، كنّا نحن بخير. مرّت على لبنان حروب كثيرة واضطرابات أمنيّة، واغتيالات صادمة لشخصيّات مهمّة ورفيعة. ومرّة فراغات دستورية طالت السلطة التتفيذية لسنوات. علاوة على إقفال مجلس النواب.
على الرغم من كلّ ذلك، ولأنّ المصارف كانت بخير، كنّا نحن أصحاب الحقّ الاقتصادي للودائع بخير. لهذا إنني على يقين بأنّه إذا تمّ العمل على عودة الحياة إلى القطاع المصرفي اللبناني، سنكون بخير. لكن لن نكون بخير إذا تابع مصرف لبنان إصدار التعميم تلو الآخر لتجفيف الحسابات المصرفية من أرصدتها. وإذا استمرّت الحكومة على النهج ذاته.
الحجّة التي يتمسّك بها الطرفان هي أنّه لا توجد سيولة ولا موارد كافية لعودة الأمور (السحوبات) إلى ما كانت عليه. والمصارف في المقلب الآخر تنأى بنفسها عن ضرورة التفكير في حلّ. على كلّ مصرف التفكير في ما هو ممكن على قياس قدراته والتوجّه لتلبية حاجة العميل بما استطاع.
ماذا باستطاعة مصرف لبنان، الحكومة أو المصارف العمل؟
هناك الكثير من الخطوات التي تؤدّي إلى إنعاش القطاع المصرفي، وسوف تكون لذلك تداعيات إيجابية على المودعين.
أ – المصارف والأخطاء التي ارتكبتها
كانت ردّة فعل المصارف عند انطلاقة شرارة الانتفاضة، في 17 تشرين الأول 2019، جدّ سريعة. إذ أوقفت العمل بشبكة التواصل التي أسّستها لتسويق وبيع منتجاتها وخدماتها. وباشرت وضع الضوابط على السحوبات والتحويل إلى الخارج. وذلك من خارج ما ينصّ عليه القانون أو تعاميم مصرف لبنان.
ولم تتوقّف عند هذا الحدّ. بل تحوّلت من الحمل الوديع في تعاملها مع المودعين إلى الذئب الشرس. هذه التوأمة في الأداء ساهمت في الإسراع في تدهور وفقدان الثقة بين المصارف والمواطن اللبناني. سواء كان مودعاً أو غير ذلك.
والمؤسف أنّ السلطات الرقابية والتنفيذية جميعها، مصرف لبنان ووزارة المالية ووزارة الاقتصاد، التزموا الصمت المخيف وانتحلوا شخصية “المتفرّج” الذي لا يستوفي شروط المراقب!
وانتفى دور جمعية مصارف لبنان في تلك الحقبة. وسقط القناع. وإعادة ترميم الثقة ليست بحاجة إلى رأسمال. لكن قد تتطلّب بعض المصاريف التشغيلية وحسن التخاطب.
واجبات المصارف ابتداءً من اليوم
1- إطلاق عجلة التواصل الإيجابي والشفّاف مع المودعين، وضرورة التعاطي مع حاجة المودع بإيجابية وصدق.
2- العودة إلى التواصل مع المؤسّسات التجارية. تلك التي أسقطت المصارف من جدول أعمالها. والهدف هو توطين رواتب موظّفيها فيها وتسديد مصاريفها التشغيلية الأخرى من خلال حسابات مصرفية. واعتماد نهج الشمول المالي عوضاً عن الاستبعاد المالي الذي مارسته المصارف منذ تشرين 2019.
3- بالتعاون مع مصرف لبنان، يجب العمل على إيجاد آليّة لعودة اعتماد وسائل الدفع المتوفّرة من خلال القطاع المصرفي. منها الشيكات، وبطاقات الدفع الإلكتروني، والتحويل، وغيرها.
وبسبب انعدام التسليف كأهمّ مصادر الإيرادات للمصرف (interest income)، على المصرف اللجوء إلى العمولات (commission charges) . وهي بديل منطقي لتغطية مصاريفه التشغيلية. ولتحصيل وفر من العمولات، على المصرف تكثيف العمليات المصرفية المنتجة.
وهنا فإنّ تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 165 يوفّر المساحة الكافية للعودة إلى توسيع رقعة المستفيدين من الخدمات المصرفية وعودة الحياة إلى ربوع القطاع المصرفي.
كلّ ما أتيت على ذكره ليس بحاجة إلى إعادة رسملة أو إعادة هيكلة المصارف. بل يكفي ترتيب البيت الداخلي في كلّ مصرف. فيما العاجز عن ذلك يتوجّب عليه إبلاغ لجنة الرقابة على المصارف فوراً. وعلى الأخيرة اتّخاذ الإجراءات الضرورية وفق ما يسمح به قانون النقد والتسليف. ومن أهمّ ما سوف تنتجه هذه الانعطافة الاستراتيجيّة في أداء المصارف هو فرزها، بين من يستطيع الاستمرار في خدمة الاقتصاد، ويتوجّب إعطاؤه كلّ الدعم، وآخرين تجب معالجتهم إمّا بالدمج أو التصفية.
ب- بين مصرف لبنان والسلطة الحاكمة
مصرف لبنان هو الرقيب والحسيب على المصارف، ولا شأن له بالتوجّه مباشرة إلى المودعين. هذا الأداء لم ولن يُجدي نفعاً. بعض المودعين لم يتقدّموا من المصارف طالبين الإستفادة من التعميم الأساسي 158 لأنّهم رأوا في ذلك إذلالاً.
لذا فإنّ مهمّة مصرف لبنان مواكبة مسيرة إعادة ترميم الثقة بين المصرف والمواطن. وعليه تنظيم العمل المصرفي من خلال تقديم الدعم للمصارف التي اتّخذت الخطوات اللازمة لالتزام أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154. وعليه معالجة وضع المصارف العاجزة عن الالتزام به. كان هناك اعتراف من قبل جمعية مصارف لبنان بعدم تمكّن جميع المصارف من التزام جميع أحكام هذا التعميم. ولم نسمع بعد ذلك بأيّ إجراء اتّخذته لجنة الرقابة على المصارف بحقّ من خالف.
لا شكّ في أنّه كانت لكل تعميم صادر عن مصرف لبنان ظروفه وأسبابه الموجبة خلال سنوات الأزمة المستمرّة حتى يومنا هذا. ومن المؤكّد أنّه كان لتقاعس مكوّنات السلطة السياسية عن أداء مهامّها القسط الأكبر في ما قام به المركزي:
فشل السلطة في:
– إقرار قانون الكابيتال كونترول كان وراء إصدار مصرف لبنان لعدد من التعاميم الاستثنائية والظرفية التي تحوّلت إلى تعاميم أبديّة. أهمّ هذه التعاميم 150، 151، 158، و166.
– إقرار قانون يساهم في ضبط الإيقاع في سوق القطع الأجنبي للحدّ من التقلّبات والاضطرابات في سعر الصرف: دفع مصرف لبنان إلى إصدار التعميم الأساسي رقم 157.
– ممارسة المسؤولية في إدارة المالية العامة لجهة ترشيد الإنفاق وتفعيل الجباية (ولا يكون من خلال رفع الضرائب والرسوم عشوائياً): دفع بمصرف لبنان لتغطية بعض المصاريف التشغيلية للدولة وإصدار التعميم الأساسي رقم 161.
– إقرار قانون يساهم في عودة الانتظام للقطاع المالي ويخفّف من الاعتماد على الأوراق النقدية في تمويل فواتير الاستهلاك للأفراد، والمصاريف التشغيلية للمؤسّسات: دفع بمصرف لبنان لإصدار التعميم الأساسي رقم 165.
“الصدقة الجارية” من مصرف لبنان..
في آخر فصوله أطلّ علينا مصرف لبنان في مطلع شهر شباط بقرارين أساسيَّين عبر التعميمين 166 و167. أعاد بموجب واحد منهما الذكريات المرّة التي واكبت إصدار التعميم الأساسي رقم 158 لجهة تحديد الحسابات والأرصدة التي قد تستوفي شروط الحصول على “الصدقة الجارية”. ونحن على أبواب صيام الفصح ورمضان. وحدّد في التعميم الآخر سعر صرف الدولار المصرفي عند 89,500 ليرة للدولار الواحد. من دون ذكرها. لكنّه رسم خريطة الطريق ليسهّل على القارئ كيفية الوصول إليها وفق السعر المعتمد على المنصة الإلكترونية، أو ما بقي منها.
يسترسل التعميم في سلب حقوق المودعين وإذلالهم من خلال اختيار مفردات واختراع شروط لا تليق بالسلطة صاحبة الاختصاص، أي السلطة النقدية، إلا في لبنان. ولم ينتهِ أسلوب الترهيب في صياغة هذا التعميم عند ذكر شروط التأهيل فقط. بل ذهب بعيداً إلى التنبيه من المخالفات التي قد يرتكبها صاحب الحقّ الاقتصادي للوديعة.
وهنا انتبهوا إلى جملة: “في حال كانت هناك مخالفات من قبل صاحب الحساب”، وعُرِفَ عنها في تجاوز سقف السحوبات، سوف تلجأ مركزية الحسابات إلى إبلاغ حاكم مصرف لبنان، وسوف يلجأ الأخير إلى تعليق استفادة صاحب الحساب. لم يذكر نصّ التعميم كلمة “بالإنابة”، التي سقطت سهواً. لأنّه من الواضح أنّ من كُلِّف بصياغة هذا التعميم اعتاد العمل مع رياض سلامة.
فكيف لصاحب الحساب، يا سعادة الحاكم بالإنابة، أن يخالف وأمواله محجوزة في المصرف منذ سنين. محجوزة بمباركة ومواكبة من كلّ السلطات!
في الختام أقول: لن يكون خلاصنا إلا من خلال مصرف لبنان والقطاع الخاصّ.
د. محمد فحيلي – اساس ميديا
للانضمام الى مجموعتنا لسعر الصرف عبر الواتساب اضغط هنا