زيادة في الاحتياطات.. لكن أين أصبحت الخسائر في الميزانيّة الجديدة؟
نشر أخيرًا مصرف لبنان بيان الوضع الوضع المالي، وفقًا لسعر صرف 89,500 ليرة للدولار، ولغاية الفترة المنتهية في أواخر الشهر الماضي شباط. حجم الميزانيّة الإجمالي اليوم، لم يعد يوازي أكثر من 57% من الحجم الذي سجّلته في الفترة المماثلة من العام 2022، وهو ما يؤشّر إلى حجم الانتفاخ الذي سجّلته الميزانيّة في الماضي، جرّاء التصريح عن بعض بنودها حسب سعر الصرف الرسمي القديم. وهذا تحديدًا ما كان يسمح في بعض المراحل بالتحايل لإخفاء بعض الخسائر المتراكمة، خصوصًا حين تمت المزاوجة ما بين اعتماد سعر الصرف الرسمي وإقحام بعض الموجودات الوهميّة تحت عنوان الموجودات الأخرى.
أين أصبحت الخسائر في الميزانيّة الجديدة؟
في الميزانيّة الجديدة بعد رحيل سلامة، وتحت إدارة “القيادة الجديدة” للمصرف، تغيّرت الأمور. لم يعد هناك سعر صرف رسمي منخفض يخفي الحجم الفعلي للفجوة ما بين الموجودات والمطلوبات بالعملة الصعبة. وبند الموجودات الأخرى بات بندًا هامشيًا لا يسجّل أي قيمة مؤثّرة. أمّا الخسائر فلم تختفِ، بل باتت تظهر بقيمتها الفعليّة، وكديون على الشعب اللبناني. على الشعب اللبناني أن يتعامل مع الخسائر الاحتياليّة القديمة، هكذا تقول ميزانيّة “القيادة الجديدة” لمصرف لبنان.
في ميزانيّة مصرف لبنان الآن، يظهر بند تحت عنوان “إعادة التقييم – المواد 75 و115 من قانون النقد والتسليف”، وبقيمة إجماليّة باتت تقارب 40.1 مليار دولار أميركي (لغاية نهاية شهر شباط الماضي). هذه “الموجودات”، غير موجودة فعلًا، وهي جاءت لتملأ “وهميًا” مكان الأموال التي كانت موجودة كـ”موجودات” بالفعل، قبل أن يخسرها مصرف لبنان. في الماضي، كان رياض سلامة يتغاضى عن كشف هذه الخسائر، بملء الميزانيّة بموجودات وهميّة تحت مسمّى “الموجودات الأخرى”. في الزمن الحاضر، بات منصوري يتمسّك بممارسة شبيهة، لكن تحت مسمّى بند “إعادة التقييم”. الموجودات الوهميّة، بدل تسجيل الخسائر المحققة، مسألة مشتركة إذًا.
ما الفرق بين موجودات سلامة “الأخرى”، وإعادة “التقييم” التي يعتنقها منصوري اليوم؟ ما الذي تغيّر؟ مسألة بسيطة: سلامة لم يخبرنا أنّها خسائر، بل اعتبرها في مخيلته الخاصّة موجودات فعليّة ستتحقّق ذات يوم من طبع الأموال (هذه الخدعة المحاسبيّة المضحكة والهزيلة والإجراميّة تبنّتها لجنة المال والموازنة، حين أسقطت حسابات وأرقام لجنة لازارد عام 2020). وفي زمن سلامة أيضًا، كان اعتماد سعر الصرف المنخفض طريقة لتقليص أثر فجوة العملات الأجنبيّة في الميزانيّات، وهو ما سهّل عمليّة إخفاء الخسائر عبر اختلاق الموجودات الوهميّة في بند “الموجودات الأخرى”.
اليوم، اختلفت الأمور. بند “إعادة التقييم” هو موجودات وهميّة أيضًا، لكنّ صاحبه -“القيادة الجديدة” في مصرف لبنان- يخبرنا من فوق السطوح أنّها خسائر، وأنها مجرّد تدبير محاسبي مؤقّت ينتطر التعامل معه لاحقًا. هي ليست خدعة، بل عمليّة تجميع بانتظار تصفية الخسارة. وبدل أن يعد نفسه بتحقيق الموجودات الوهميّة من إيرادات ما ستتحقق ذات يوم، كما فعل سلامة، يقول منصوري شيئًا مختلفًا: هذه الخسائر هي دين على الدولة اللبنانيّة، بموجب المادّة 115 من قانون النقد والتسليف، وعلى الشعب اللبناني أن يسددها يومًا ما.
غير أنّ خسائر مصرف لبنان في ميزانيّات “القيادة الجديدة” لم تقتصر على بند إعادة التقييم. فحتّى هذه اللحظة، ما زالت الميزانيّة تعكس 16.6 مليار دولار من الموجودات تحت مسمّى “ديون على القطاع العام”، وهو ما يمثّل حصيلة أعمال التزوير التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة في شهر شباط 2023، قبيل مغادرته منصبه. إذ قام سلامة يومها بتحويل أجزاء من خسائر مصرف لبنان إلى ديون على الدولة، باعتبارها دولارات قام ببيعها للقطاع العام منذ 2007. وحتّى هذه اللحظة، لم تبادر وزارة الماليّة إلى إجراء لتوضيح موقفها من هذا التزوير الفاضح في الميزانيّات.
الزيادة في الاحتياطات وقيمة الذهب
وفقًا للميزانيّة نصف الشهريّة، يتبيّن أن مصرف لبنان تمكّن خلال النصف الثاني من شهر شباط من زيادة حجم احتياطاته بالعملات الأجنبيّة بنحو 129 مليون دولار. وفي النتيجة، تجاوز حجم الموجودات الخارجيّة للمصرف –الموجودات بالعملات الأجنبيّة- حدود 14.78 مليار دولار، حتّى بداية الشهر الحالي. مع الإشارة إلى أنّ هذه القيمة تشمل نحو خمسة مليارات دولار من سندات اليوروبوند اللبنانيّة التي يملكها مصرف لبنان، والتي لا تمثّل موجودات سائلة بالفعل.
وعلى أي حال، يمكن القول أنّه –وفي نتيجة هذه التطوّرات- باتت قيمة احتياطات المصرف المركزي أعلى بأكثر من مليار دولار، مقارنة بقيمتها في بداية شهر آب الماضي، أي عند مغادرة الحاكم السابق رياض سلامة لمنصبه. وجاءت هذه الزيادات كنتيجة لمجموعة من الخطوات، من بينها: تدخّل مصرف لبنان شاريًا للدولار من السوق، وتحصيل مجموعة من الرسوم بالدولار النقدي لمصلحة الدولة اللبنانيّة، بالإضافة إلى تكوين حسابات خاصّة بالمصارف بالدولار “الفريش” لدى مصرف لبنان.
ويبدو من الصعب تمييز حجم مساهمة كل خطوة في زيادة الاحتياطات، إذ أنّ مصرف لبنان لا يصرّح حاليًا عن صافي احتياطاته بالعملات الأجنبيّة، أي الفارق بين الإلتزامات والموجودات بالدولار النقدي (وهو ما كان من شأنه أن يكشف حجم ودائع الدولة والمصارف بالدولار “الفريش” لدى مصرف لبنان).
في الوقت نفسه، أظهرت الميزانيّة أن قيمة الذهب الموجود بحوزة مصرف لبنان باتت توازي 20.08% من إجمالي قيمة الميزانيّة، بعدما حقّقت قيمة هذا البند –لغاية بداية الشهر الحالي- زيادة سنويّة بنسبة 12.28%، وباتت توازي نحو 18.75 مليار دولار. وجاءت هذه التطوّرات مدفوعة باستمرار الارتفاع في أسعار الذهب العالميّة، في حين أنّ المصرف المركزي يعمل على تعديل قيمة بند الذهب لديه وفقًا للتغيّر في هذه الأسعار على نحوٍ نصف شهري.
في خلاصة الأمر، ما زالت ميزانيّة المصرف المركزي بعيدة عن تحقيق أفضل معايير النزاهة في مجال الإفصاح المالي، سواء في ما يتّصل بعدم وضوح أسباب تغيّرات الكثير من بنودها، وخصوصًا بند احتياطات العملات الأجنبيّة، أو في ما يتصل بالبنود المرتبطة بالديون الجديدة على الدولة اللبنانيّة. وهذا ما يطرح السؤال عن وضعيّة مسار تصحيح الميزانيّات، الذي يفترض أن يكون قيد البحث بين مديريّات مصرف لبنان وفريق متخصّص من صندوق النقد الدولي، كما أعلن منذ فترة الحاكم بالإنابة وسيم منصوري.
علي نور الدين – المدن