“بلومبرغ” لن تنطلق قبل إعادة تكوين السلطة
من المبكر الحديث عن انطلاق منصة “بلومبرغ” لرصد سعر صرف الدولار وتحريره وفق آليات السوق، قبل إعادة تكوين السلطة التي سوف تمرّ إلزامياً بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة.
ما إن دخل وقف إطلاق النار حيّز التطبيق، حتى عاد الحديث بين الاقتصاديين ضمن أروقة مواقع التواصل الاجتماعي عن الأزمة الاقتصادية. عاد أغلب هؤلاء إلى طرح الأسئلة حول مواضيع سُكت عنها لأكثر من سنة… ومن بين تلك المواضيع “منصة بلومبرغ”، التي وَعَدَ مصرف لبنان ذات يوم بإطلاقها من أجل ضبط سعر صرف الدولار، ثم امتنع بسبب الحرب.
في تلك المرحلة، كان سعر صرف الدولار متفلتاً من كلّ قيد وعقال. يتأرجح في اليوم الواحد بين 1000 و 10000 ليرة في بعض المرات، بينما مصرف لبنان بحاكميته السابقة (رياض سلامة)، كانت تشجّع على تلك التأرجحات. بل تديرها في بعض الحالات.
اليوم، يشهد سعر صرف الدولار استقراراً ملحوظاً. هذا الاستقرار كان نتيجة سياسة انتهجها المصرف المركزي ونجحت برغم الحرب. تقوم تلك السياسة على “خلق” طلب مصطنع على الليرة اللبنانية الشحيحة في السوق (هو من تسبّب بشحّها عن قصد) من أجل الموازنة بين سعر صرف الليرة من جهة وبين سعر صرف الدولار من جهة أخرى… تستمر هذه السياسة إلى اليوم منذ أكثر من سنة وتستمرّ.
قد يسأل البعض: هل هذه السياسة سليمة؟ هل يمكن الاستمرار بها إلى ما شاء الله؟ لماذا لا يُطلق مصرف لبنان بالفعل منصة “بلومبرغ” بعد أن قال إنّه أتمّ التحضيرات لإطلاقها؟
الإجابة السريعة على السؤال الأخير تفيد بأنّ إطلاق المنصة بلا شكّ أمر لا مفرّ منه. لأنّ تحرير سعر الصرف (بعد توحيده) هو واحد من مطالب عدّة طالب بها صندوق النقد الدولي الذي نتطلّع إلى مساعدته. أضف إلى هذا أيضاً، أنّ مصرف لبنان لم يعد قادراً على التدخل من أجل ضبط سعر الصرف كما كان يحصل في العقود الفائتة. بل ليس مضطراً إلى الدفاع عن الليرة، لا اليوم ولا غداً حتى لو كان يملك القدرة على ذلك.
هذا كله يشي بأنّ التوقيت المناسب لإطلاق هذه المنصة ليس اليوم، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار المنشود في الظروف الحالية، خصوصاً أنّ بعض الداعين لإطلاقها، من بين الواهمين، يظنون أنّ إطلاق المنصة ربّما يخفّض سعر صرف الدولار إلى أرقامٍ قياسية، قد تصل إلى ما دون 50 ألف ليرة، ولا يلاحظون أنّ ضبط سعر الصرف واستقراره يحفّز المصرف المركزي على مراكمة الاحتياطات وليس العكس على غرار المرحلة السابقة.
وعليه، فإنّ إطلاق منصة “بلومبرغ” اليوم هو مطلب غير واقعيّ، وذلك للأسباب التالية:
1- إطلاق منصة “بلومبرغ” في هذا التوقيت هو أمر غير مجدٍ، لأنّ الاقتصاد اللبناني “مدولر” بما يصل إلى نحو 90%، أي بشكل شبه كامل. وبالتالي فإنّ استخدام الليرات اللبنانية في السوق يقتصر اليوم على عدد محدّد من الخدمات، على رأس هذه الخدمات تلك الخاصة بالدولة، لجهة دفع الضرائب والرسوم فقط… وهذا ما يخلق الطلب الأكبر على الليرة اليوم، ويحافظ على التوازن.
2- لأنّ التأرجح في سعر صرف الدولار صعوداً أو هبوطاً سوف يؤثر على إيرادات الدولة، وكذلك على دافعي الضرائب والرسوم (المواطنين). بمعنى آخر، بما أنّ الرسوم والضرائب مقيّمة على سعر صرف الدولار، فإنّ ارتفاعه سيؤدّي إلى هبوط قيمة الرسوم والضرائب. بينما هبوط سعر صرف الدولار سوف يكبّد المواطنين اللبنانيين خسائر إضافية باعتبار أنّهم يصرفون الدولارات من أجل دفع الضرائب والرسوم. أي أنهم سوف يضطرون إلى صرف المزيد من الدولارات من أجل دفع الرسم أو الضريبة نفسها.
3- لأنّ انطلاق المنصة بحاجة إلى “حجر زاوية” يساعدها على العمل والاستمرار، وهو “العمل المنتظم” للقطاع المصرفي. ذاك القطاع الغائب بشكل شبه كلّي عن الدورة الاقتصادية. فكما هو معروف، فإنّ رصد التداول ومراقبة عمليات صرف الدولار والليرة، تتمّ في المصارف. تلك المصارف هي المكان الصحّي والسليم التي تمكّن مصرف لبنان من رصد حركة السوق، فكيف سيفعل مصرف لبنان ذلك إذا كان القطاع المصرفي مشلولاً ولا تداول على شبابيكه؟ هل يقوم برصد العمليات لدى الصرافين؟ بعبارة أخرى، فإنّ إطلاق المنصة قبل هيكلة القطاع المصرفي وعودته إلى العمل بشكل جديّ هو ثغرة قد يستغلّها المضاربون من أجل التلاعب بالاستقرار.
4- النقطة الآنفة الذكر أعلاه، تحيلنا إلى ملف أكبر وأعظم من هيكلة القطاع المصرفي، ويتعلق بإعادة تكوين السلطة السياسية. إطلاق ورشة الإصلاحات الاقتصادية التي ما زال صندوق النقد والمجتمع الدولي، ينتظرونها إلى اليوم، تبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ثم تسمية رئيس الحكومة وتشكيلها، لتكون قادرة على إعادة إطلاق التفاهمات مع صندوق النقد الدولي وتوقيع اتفاق جديد، ومن ثم تنفيذ لائحة المطالب التي وافقت عليها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبل استقالتها.
هذا يؤكد أنّ المطالبة بإطلاق المنصة اليوم هو “ذرّ رماد في العيون”. ولا يمكن إطلاقها قبل إعادة تكوين السلطة السياسية، التي تنتظر ولادتها تاريخ 9 كانون الثاني من العام المقبل، أي موعد جلسة انتخاب رئيس التي حددها رئيس مجلس النواب نبيه بري بعيد وقف إطلاق النار، ويبدو أنّ الموعد كان من ضمن نقاط وقف إطلاق النار المستترة.
قبل هذا التاريخ، لا يمكن الحديث عن أيّ عملية إصلاحية. بل حتى لا يمكن الحديث عن صمود “وقف إطلاق النار”، الذي قد ينهار مجدداً في حال فشل البرلمان في انتخاب الرئيس العتيد… فما بالكم بالإصلاحات وبمنصة “بلومبرغ”؟
“Bloomberg” Will Not Launch Before Political Restructuring
It is premature to discuss the launch of the “Bloomberg” platform for tracking and liberalizing the exchange rate of the dollar according to market mechanisms, before the political restructuring in Lebanon is completed. This process will inevitably involve electing a president for the republic and forming a new government.
Once the ceasefire came into effect, discussions resumed among economists on social media platforms about the ongoing economic crisis. Many of them returned to questioning topics that had been sidelined for over a year. Among these topics was the “Bloomberg Platform,” which the Central Bank of Lebanon had once promised to launch to regulate the exchange rate of the dollar but refrained from doing so due to the war.
At that time, the dollar exchange rate was fluctuating wildly. It would often range between 1,000 and 10,000 Lebanese pounds within a single day. Under the previous leadership of the Central Bank (Riad Salameh), these fluctuations were encouraged, and in some cases, managed by the Bank.
Today, the dollar exchange rate has shown notable stability. This stability is a result of the monetary policy followed by the Central Bank, which has worked despite the ongoing crisis. This policy is based on artificially creating demand for the Lebanese pound (which the Central Bank deliberately reduced in circulation) in order to balance the exchange rate of the Lebanese pound and the dollar. This policy has been in place for over a year and continues to this day.
However, the question remains: Why hasn’t the “Bloomberg” platform been launched, despite the Central Bank’s announcement that it has completed its preparations?
The short answer is that launching this platform is inevitable in the future, as liberalizing the exchange rate (after unifying it) is one of the demands of the International Monetary Fund (IMF), with whom Lebanon seeks to cooperate. However, at present, the Central Bank can no longer intervene to regulate the exchange rate as it did in the past, and even if it could, it is no longer obliged to defend the Lebanese pound.
Thus, the timing for launching the “Bloomberg” platform is not right. Some people mistakenly believe that launching the platform might drastically reduce the dollar exchange rate to below 50,000 Lebanese pounds, not realizing that controlling and stabilizing the exchange rate will encourage the Central Bank to accumulate reserves rather than spend them, as was the case in the previous phases.
Why is Launching “Bloomberg” Now Not Feasible?
-
The Lebanese Economy is Dollarized: Approximately 90% of the Lebanese economy is dollarized, meaning that the use of Lebanese pounds is limited to a small number of services, particularly those related to the state (such as paying taxes and fees). This is what creates the largest demand for Lebanese pounds and maintains the balance in the market.
-
Impact of Dollar Fluctuations on Revenues: Fluctuations in the dollar exchange rate impact state revenues because taxes and fees are priced in dollars. An increase in the dollar will decrease the value of taxes and fees, while a decrease will lead Lebanese citizens to spend more dollars to pay the same amount in taxes or fees.
-
The Dysfunctional Banking Sector: Launching the “Bloomberg” platform requires the proper functioning of the banking sector, which is almost entirely absent from the economic cycle. Monitoring the exchange rate and tracking dollar and pound transactions typically happens through banks. But with the banking sector paralyzed and no transactions happening at the windows, the Central Bank will be unable to accurately monitor market activity. This could lead to speculation and market manipulation, undermining stability.
-
Political Restructuring is a Prerequisite: Economic reforms, including the launch of the “Bloomberg” platform, depend on political restructuring in Lebanon. This process begins with electing a new president, followed by the formation of a government that will be able to re-establish agreements with the IMF and sign a new agreement, which will then pave the way for implementing the reforms approved by former Prime Minister Najib Mikati's government before its resignation. Therefore, discussing the “Bloomberg” platform before the political restructuring is unrealistic. This restructuring is expected to take place with the presidential election session scheduled for January 9 next year.
Conclusion
For now, calling for the launch of the “Bloomberg” platform is premature and unrealistic. Only after the election of a new president and the formation of a new government will Lebanon be able to undertake serious economic reforms, including the launch of the “Bloomberg” platform for exchange rate unification.
Translated by economyscopes team
المصدر: عماد الشدياق – نداء الوطن