حكومة العهد الأولى بين النظرية والتطبيق
حاكى خطاب القسم آلام اللبنانيين وآمالهم بعناوين كانوا توّاقين لسماعها، وجاءت كلمة رئيس الحكومة المكلف لتكمل المشهد، ولتخاطب عقول اللبنانيين بمفاهيم عملية، وترسم مسودةً لخارطة طريق سوف تتمظهر، ولا ريب، في البيان الوزاري المرتقب.
وقد حملت مفاهيم عديدة ذات دلالات واضحة لا لبس فيها، منها المواطنة والدولة المدنية والالتزام بالقوانين وتطبيقها وإعادة صياغة النظام حسب ما ورد في اتفاق الطائف، فضلاً عن مكافحة الفساد وما إليها؛ فكل جملة قيلت تتضمن مفهوماً أو أكثر. لكن ما يعنينا في هذا المقال، من بين المفاهيم المشار إليها، أربعة مفاهيم مترابطة بعضاً مع بعض، يتعذّر تحقيق أي واحد منها بدون تحقيق الثلاثة الباقية؛ فهي جميعاً في مقام سبب ونتيجة في آن واحد، وتتساوى من حيث الأولويات والمهام.
هذه المفاهيم الأربعة، كما جاءت في كلمة الدكتور نواف سلام، كانت عناوينها وبالتتابع: اقتصاد حديث ومنتج، نمو شامل ومستدام، تأمين فرص عمل، تتعلّمون هنا وتعملون هنا. وهي، في المحصلة الإجمالية، مفاهيم أربعة ذات دلالات واضحة لسياسة اقتصادية اجتماعية تربوية تخرج عن المألوف اللبناني، وعن التقليد والتكرار. فهي تحمل رؤية للبنان قادر ومنتج ومستدام.
هي أربعة مفاهيم تضع قواعد ومساراً يؤدي إلى إيجاد العقدة الفضلى التي تربط الاقتصاد، وتسيّره، وتنهض به، باعتبارها ستقوم على القدرات البشرية الخلّاقة في القطاعات المنتجة الحديثة.
أما مفهوم «تتعلّمون هنا وتعملون هنا»، فهو يخاطب النظام التربوي لا لتطويره فحسب، بل لإحداث تغيير فيه يجعله يتلاءم مع حاجات القطاعات الاقتصادية لليد العاملة التقنية والفنية الماهرة، المواكبة لاقتصاد المعرفة وذات القيم المضافة، كما يسهم في إيجاد ثقافة العمل التي من شأنها إخراج لبنان من دائرة العقد الاجتماعية المتمثلة في اختصاصات الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة وطب الأسنان والشهادات الجامعية الضيقة الأفق، المفضية إلى إغراق سوق العمل بفائض يعطل ديناميته. ناهيك بأن من شأن هذا المفهوم أيضاً أن يلغي فكرة «نعلّم تأهيلاً للعمل في أسواق العمل العالمية»، تلك الفكرة غير المدركة للكلفة التي مصيرها الهدر، وقدرها 250 ألف دولار بالحد الأدنى عن كل شابة وشاب، التي يتحمّلها الاقتصاد الوطني إذ يرصد الأخيرين للهجرة، إضافة إلى فقدان انتاجيتهما لصالح اقتصاديات الدول الأخرى التي يعملون فيها.
ثم أن «تأمين فرص العمل» يتعلق حكما بالقطاعات الاقتصادية المنتجة، الصناعية والزراعية والسياحية والخدماتية، بل بالأخص القطاع الصناعي، باعتباره الأكثر تأمينا لفرص العمل الدائمة والمستدامة. والحال أن الشغور الوظيفي القائم حالياً في القطاع الصناعي، يعد بآلاف الوظائف، وهو نتيجة لفقدان اليد العاملة المتخصصة، وللكلفة التنافسية الكبيرة الناتجة عن المنافسة غير المشروعة للاستيراد. فلبنان يستورد سنويا اليوم بما قيمته 6.542 مليار د.أ. تنفق على 1210 أنواع من السلع التي تنتج الصناعة الوطنية مثيلا لها وبنفس الجودة، ولا تصدّر منها إلّا بما قيمته 2.196 مليار د.أ.. ولذا، فأي إجراء حمائي للصناعة سيدفع نحو ملء الشغور القائم وإنتاج آلاف فرص العمل الجديدة في القطاع الصناعي والقطاعات المتعاملة معه، وسيؤدي حكماً الى تعظيم الناتج الصناعي، وردم الهوة في الحساب الجاري، وزيادة التصدير، وتخفيض عجز الميزان التجاري.
وأما مفهوم «النمو الشامل والمستدام»، فهو يعني، في عداد ما يعنيه، خروج لبنان من صيغة «بلد سياحة وخدمات» الى شمولية النمو وتساويه في القطاعات الاقتصادية كافةً، على قاعدة تكاملها في عملية تنمية مستدامة تتبع قواعد الاقتصاد الدائري، وتشمل جميع المناطق اللبنانية حسب القدرات الموجودة في كل منها. وهذا بدوره يتطلب تحديث القطاعات وطرائق عملها، وتقديمها وظائف ذات قيمة مضافة، تؤدي جميعها الى «اقتصاد حديث ومنتج» قاعدته المعرفة والبحث والإبداع.
وأما المعني بكل هذا، فهي ستة وزارات أساسية، هي وزارات التربية والعمل والاقتصاد والصناعة والسياحة والزراعة، التي عليها تبني المفاهيم الأربعة، وجعلها قواعد للسياسة الخاصة بكل منها، بحيث تتكامل سياساتها مع بعضها البعض. وهو ما يشترط اعتماد وزراء لديهم من المعرفة والتجربة والاختصاص ما يؤهلهم لخوض هذه الفرصة المتاحة وإنقاذ لبنان واقتصاده، ووقف الانهيار الحاصل، ويجعلهم، في آن واحد، عوناً لرئيس الحكومة، لا عبئا عليه، على أن يتحلّوا أيضاً بالتجربة السياسية والعملية لمخاطبة الرأي العام اللبناني، والخاص القطاعي لإشراكه في عملية البناء، وألا يكونوا ذوي مصلحة في أعمالهم تتناقض مع مصلحة وزاراتهم؛ ذلك أنه لا يكفي أن يكون المرء ناجحاً في عمله القطاعي كي نوليه وزارة تماثل عمله، بل عليه أن يتمتع أيضاً بهذه الرؤية الشاملة التي وضعها رئيس الحكومة ويكون على علم بكيفية الإسهام مع زملائه في خلق آليات تنفيذها.
ألا أعان الله رئيس الحكومة المكلف على وضع التشكيلة الحكومية الملائمة لكلمته ولخطاب القسم، على أمل أن يعينه سائر المعنيين بتخفيف الطلبات الاستيزارية.
——————
* خبير بالاقتصاد – سياسي وأسواق العمل والتنمية الاقتصادية-الاجتماعية
حكومة العهد الأولى: بين النظرية والتطبيق وآفاق التغيير
الآمال والطموحات
جاء خطاب القسم ليعبّر بصدق عن تطلعات اللبنانيين وآلامهم، حيث استمع المواطنون إلى عناوين طالما تمنوا تحقيقها. وتزامنت كلمة رئيس الحكومة المكلف مع هذا الزخم، لتقدم طرحًا عمليًا يلامس الواقع، وترسم الخطوط العريضة لخارطة طريق مرتقبة تُجسدها لاحقًا بنود البيان الوزاري.
مفاهيم أساسية للمستقبل
الكلمات التي طرحها رئيس الحكومة المكلف تضمنت مفاهيم بارزة تشير إلى تغيير جذري وشامل، من أبرزها:
- اقتصاد حديث ومنتج.
- نمو شامل ومستدام.
- تأمين فرص عمل.
- تتعلّمون هنا وتعملون هنا.
هذه العناوين الأربعة تمثل لبنات أساسية لسياسة اقتصادية واجتماعية وتربوية جديدة تتجاوز النمط التقليدي وتعتمد على الابتكار والإنتاجية. كما تعكس رؤية نحو بناء اقتصاد لبناني قادر على تحقيق النمو المستدام، قائم على الكفاءات البشرية في القطاعات الإنتاجية.
إصلاح التعليم لمواكبة سوق العمل
طرح مفهوم “تتعلّمون هنا وتعملون هنا” يشير إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام التعليمي في لبنان بحيث يتوافق مع احتياجات سوق العمل، خاصة في القطاعات الحديثة التي تعتمد على المعرفة والقيم المضافة. يهدف هذا إلى القضاء على ثقافة العمل التقليدية التي ركزت على مجالات الطب والهندسة والمحاماة والصيدلة، مما أدى إلى فائض في الخريجين وصعوبة في دمجهم بسوق العمل.
كما يسعى هذا المفهوم إلى التخلص من الهجرة الاقتصادية المكلفة التي تكبد لبنان خسائر اقتصادية كبيرة تقدر بحوالي 250 ألف دولار لكل شاب وشابة.
دور القطاع الصناعي في خلق فرص العمل
تأمين فرص العمل يتطلب تعزيز القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها القطاع الصناعي، الذي يُعتبر الأكثر قدرة على تأمين وظائف مستدامة. يعاني هذا القطاع حاليًا من نقص حاد في اليد العاملة المتخصصة بسبب الكلفة العالية للمنافسة غير المشروعة للاستيراد. على سبيل المثال:
- لبنان يستورد سلعًا بقيمة 6.542 مليار دولار سنويًا، بينما يصدّر ما قيمته 2.196 مليار دولار فقط.
- الإجراءات الحمائية للصناعة يمكن أن تسهم في سد العجز الحالي وخلق آلاف الوظائف في القطاعات المرتبطة.
نحو نمو شامل ومستدام
يدعو مفهوم “النمو الشامل والمستدام” إلى تغيير وجه لبنان من كونه بلدًا يعتمد على السياحة والخدمات فقط، إلى اقتصاد متكامل وشامل يغطي جميع القطاعات الاقتصادية. يعتمد هذا التحول على قواعد الاقتصاد الدائري والتنمية المتوازنة بين المناطق اللبنانية، مع تحديث القطاعات الاقتصادية لتقديم وظائف ذات قيمة مضافة عالية.
التنفيذ وتكامل الوزارات
لتحقيق هذه الرؤية، يجب على ست وزارات أساسية العمل بتناغم كامل:
- وزارة التربية: لإعادة تصميم النظام التعليمي.
- وزارة العمل: لتطوير سياسات العمل وربط التعليم بسوق العمل.
- وزارة الاقتصاد: لتبني سياسات تعزز القطاعات الإنتاجية.
- وزارة الصناعة: لدعم الصناعات الوطنية.
- وزارة السياحة والزراعة: لتحديث هذين القطاعين بما يواكب متطلبات الاقتصاد الحديث.
التحدي الأكبر أمام رئيس الحكومة يكمن في اختيار وزراء يتمتعون بالكفاءة والتخصص والقدرة على التنسيق، بعيدًا عن المصالح الفردية التي تتناقض مع المصلحة العامة.
The First Government of the New Era: A Vision Between Theory and Practice
Hopes and Aspirations
The inaugural speech of the new president touched on the pain and aspirations of the Lebanese people, presenting long-awaited goals. Simultaneously, the speech by the designated prime minister offered a practical approach, outlining a roadmap expected to materialize in the ministerial statement.
Key Concepts for a Promising Future
The prime minister's speech highlighted essential concepts for the country's revival:
- A modern and productive economy.
- Inclusive and sustainable growth.
- Job creation.
- Learn here, work here.
These four pillars form the foundation for a novel socio-economic policy aimed at breaking traditional molds, focusing on innovation and productivity, and envisioning a capable and sustainable Lebanese economy.
Educational Reform to Align with Market Needs
The “Learn here, work here” concept calls for a comprehensive reform of Lebanon's educational system to align it with the demands of modern industries. This approach aims to shift focus from traditional professions like medicine and engineering to technical and knowledge-based fields. Furthermore, it seeks to curb the economic costs of emigration, which amounts to approximately $250,000 per individual in lost national productivity and investment.
The Role of Industry in Job Creation
Industrial development is central to job creation and economic stability. The current labor shortage in Lebanon's industrial sector results from a lack of skilled workers and high costs due to unfair import competition. For instance:
- Lebanon imports $6.542 billion worth of goods annually while exporting only $2.196 billion.
- Protective measures for local industries could create thousands of jobs and address the trade deficit.
Inclusive and Sustainable Growth
The concept of “inclusive and sustainable growth” envisions transforming Lebanon into a diversified economy that integrates all sectors. This shift relies on circular economy principles and balanced regional development, modernizing industries to provide high-value jobs.
The Execution Challenge: Integrating Key Ministries
Six essential ministries must work in harmony to realize this vision:
- Ministry of Education: Overhauling the educational system.
- Ministry of Labor: Aligning workforce policies with economic needs.
- Ministry of Economy: Promoting productive sectors.
- Ministry of Industry: Supporting local manufacturing.
- Ministry of Tourism and Agriculture: Modernizing these sectors to meet global standards.
The success of this vision depends on appointing competent ministers who can work collaboratively and prioritize national interests over personal gain.
Translated by economyscopes team
المصدر: هشام أبو جودة – اللواء