يسيطر هوس التعرف على اتجاهات التضخم على الأسواق المالية حول العالم في الوقت الذي يكافح فيه الاحصائيون لقياس معدلات التضخم، بعدما تسببت الجائحة في زيادة صعوبة مهمتهم وتحديد المعايير الصحيحة التي سوف يستخدمونها في المستقبل لقياس التضخم نتيجة لمشكلتين رئيسيتين:
أولاً: يعتمد مؤشر أسعار المستهلك على “سلة” من السلع والخدمات التي اعتاد الأمريكيون على شرائها، ولكن الجائحة أثرت على عادات الشراء، وبالتالي تغيرت مكونات تلك السلة.
ثانياً: لم يستطع الباحثون استخدام المنهج التقليدي الذي يتضمن زيارة المتاجر والتعرف على الأسعار أثناء الإغلاق. وهو ما تسبب في ثغرات بالبيانات وسط تحوّل العديد من الأشخاص للتسوق عبر الإنترنت، والتي تتغير فيها الأسعار من شخص لآخر، كما تشهد تغيرات سريعة ما يجعل قياسها أكثر صعوبة.
وتتخطى تلك الصعوبات كونها مجرد مشاكل فنية. حيث انعكست دخول ما يقرب من 80 مليون أمريكي تلقوا ضمان اجتماعي، والحصول على الغذاء مجاناً بالاضافة إلى العاملين وفق اتفاقيات الأجور الجماعية على مؤشر أسعار المستهلكين بطريقة مباشرة.
وعندما يفشل الباحثون في تسجيل التغييرات في تكلفة المعيشة، يمكن أن يتم تقليص ميزانياتها. (يستخدم الاحتياطي الفيدرالي مقياساً مختلفاً للتضخم، بناء على أنماط إنفاق أكثر حداثة، لذلك تكون قراراته بشأن سعر الفائدة أقل تأثراً بمشكلة قياس التضخم).
قضية “السلة”
تبقى قضية تحديد سلة السلع والخدمات، التحدي المباشر الذي يواجه الفنيين المسؤولين عن قياس التضخم.
قال مارشال رينسدورف، الخبير الاقتصادي في إدارة الإحصاءات بصندوق النقد الدولي، في عرض تقديمي في نوفمبر: ” عانت أوزان مؤشر أسعار المستهلكين من تقادم مفاجئ في ظل الوباء”.
على سبيل المثال، يمثل تناول الطعام خارج المنزل 6.3% من سلة مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة – لكن رينسدورف يقول، إن مؤشر أسعار المستهلكين أثناء الوباء كان يجب أن يُخفض هذا الوزن النسبي إلى النصف تقريباً. في غضون ذلك، أنفق الأمريكيون المزيد على شراء الطعام من متاجر البقالة، ما أدى إلى تسارع الأسعار العام الماضي.
وقد ابتكر الخبير الاقتصادي ألبرتو كافالو، الأكاديمي في كلية هارفارد للأعمال، مؤشراً لقياس التضخم في الولايات المتحدة خلال فترة جائحة كورونا باستخدام سلة تعتمد على أوزان بطاقات الائتمان، التي تعكس ما يشتريه الأمريكيون.
وقد أظهر المؤشر باستمرار قراءة أعلى من مؤشر أسعار المستهلكين الرسمي وتجاوز 2% الشهر الماضي للمرة الأولى منذ بدء الجائحة.
ومن الطبيعي أن يقوم مكتب إحصاءات العمل المسؤول عن إحصاء بيانات التضخم الرئيسية في الولايات المتحدة بتحديث سلة مؤشر أسعار المستهلكين في بداية العام المقبل، لتعكس أنماط الاستهلاك الجديدة لعام 2020. ولكن ذلك التحديث قد يخلق مشاكل جديدة من خلال تكريس عادات الإنفاق غير الطبيعية كمعيار للتضخم في المستقبل.
2020 كأن لم يكن
وقال جوناثان تشيرش الخبير الاقتصادي في مكتب إحصاءات العمل عبر البريد الإلكتروني، إن المكتب يدرس تعديل إجراءاته المعتادة.
وتشمل البدائل التعامل مع عام 2020، وكأنه لم يحدث أبداً، واعتماد بيانات السنوات السابقة، أو تعديل أرقام فترة جائحة كورونا وفقاً لمصادر ثانوية.
بينما يقول راندال فيربروغ، كبير الاقتصاديين في بنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، إنه على أي حال، هناك خطر من إدخال المزيد من طرق القياس الاستثنائية.
وتواجه العديد من الاقتصادات المشابهة حول العالم مشاكل مماثلة. ومن المقرر أن تنشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعض النصائح للدول الأعضاء.
القضية الثانية تدور حول جمع البيانات. حيث يوظف مكتب إحصاءات العمل حوالي 400 باحث، يجمعون معلومات حول الأسعار، من خلال مسحين رئيسيين: يركز أحدهما على الشركات التي تبيع السلع والخدمات، والآخر يسأل الملاك والمستأجرين عن مدفوعات الإيجار.
قبل الجائحة، تم تجميع أكثر من 70% من البيانات في المسح الأول – وحوالي 40% من المسح الثاني عن طريق الزيارات الشخصية، وتم التعامل بتطبيق تلك الطريقة التي تمزج بين الطريقتين بدقة على مر السنين. ولكن الشهر الماضي، تم جمع 84% من بيانات الأسعار عبر الإنترنت، والباقي عن طريق استطلاعات الرأي عبر الهاتف، بينما تم إجراء مسح الإيجار بالكامل عبر الهاتف.
وقال المكتب في أحدث تقرير لمؤشر أسعار المستهلك: “أدت هذه العوامل إلى زيادة في عدد قياسات الأسعار التي تم احتسابها بشكل مؤقت بسبب تلك الظروف”. وأضاف: “تستند العديد من المؤشرات إلى كميات أصغر من الأسعار المجمعة عن الطريقة المعتادة”.
وأظهرت البيانات الوطنية لشهر فبراير خلو أسعار زبدة الفول السوداني والليمون والبروكلي. وتم اعتبار البيانات الخاصة بأسعار السيارات الجديدة في ديترويت والمعروفة باسم مدينة السيارات “غير كافية للنشر”.
قد يتمكن الباحثون المسؤولون عن تجميع بيانات الأسعار من العودة قريباً إلى زيارة المتاجر، ولكن قد يختار المستهلكون عدم القيام بذلك، في ظل تسارع التحوّل إلى الاعتماد على التجارة الإلكترونية خلال الجائحة، حيث مثلت 19% من مبيعات التجزئة الأساسية في الولايات المتحدة في الربع الأخير من عام 2020، بزيادة قدرها 4 نقاط مئوية تقريباً عن نفس الفترة من العام السابق.
وتضع المنافسة بين تجار التجزئة على الإنترنت وتجار التجزئة التقليديين ضغوطاً هبوطية على التضخم. لكن كافالو من جامعة هارفارد يقول، إن مؤشره للأسعار عبر الإنترنت يرتفع بسرعة منذ نوفمبر، وهو تحول لم ينعكس على مؤشر أسعار المستهلك.
وقد تظهر مشاكل أكبر في القياس، لأن متاجر التسوق عبر الإنترنت يمكنها بسهولة تخصيص أسعار لمشترين أفراد بعينهم وتعديلها آلاف المرات في اليوم عبر الخوارزميات.
ويقول فيربروغ، من مجلس الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند: “إنه يمثل تحدياً كبيراً للمؤسسات الإحصائية”. وأضاف: “كيف يمكنهم التعرف على الأسعار الفعلية التي يشتري بها المستهلكين؟”.
المصدر: 24 – بلومبيرغ