إذا أردت معرفة مدى سرعة وتفاوت الاقتصادات في التعافي من وباء كورونا، لا تنظر إلى أبعد من سوق شحن المواد الخام العالمية، فقد أدَّى ارتفاع الطلب على كل شيء بداية من فول الصويا إلى الفولاذ، لارتفاع تكلفة نقل البضائع الجافة بأكثر من 50% هذا العام.
وبدأ التصنيع، الذي انتعش لأوَّل مرة في الصين، يتسارع الآن في أماكن أخرى، وتكثِّف البلدان مشترياتها من السلع لإعادة بناء المخزونات، بعد تقليصها خلال عمليات الإغلاق، الناجمة عن تفشي وباء كورونا، التي أدَّت إلى تباطؤ أعمال الموانئ، وأضرَّت بالنشاط الاقتصادي على مستوى العالم.
ارتفاع متواصل في الأسعار
وقال محللون، إنَّ الارتفاع لم ينتهِ بعد، إذ من المتوقَّع أن تظل أسعار السلع غير المعبأة مثل الحبوب، وخام الحديد، والفحم- والمعروفة باسم السلع السائبة الجافة – مرتفعة هذا العام، وربما حتى عام 2022.
وما يجري للأسعار هو تحوُّل صارخ لسوق كان قد انزلق لأدنى مستوى له في أربع سنوات قبل أقل من 12 شهراً، ويأتي ذلك وسط نقص المتاح من سفن الشحن.
ويحدث هذا أيضاً لأنَّ الانتعاش غير المتكافئ يظهر في تنقلات حاويات السفن، التي تحمل كل شيء من الأثاث إلى السلع المعبَّأة مثل القهوة والسكر الأبيض.
قال “بوراك سيتينوك”، رئيس الأبحاث في شركة “أرو شيبروكينغ غروب”: “إذا رجعت للخلف قليلاً، وتذكَّرت كيف كان شكل العالم، وما هو الشعور العام حول العالم في هذا الوقت من العام الماضي، كان هناك قدرٌ كبير من عدم اليقين، لكن الآن بعد أن بدأنا نرى الضوء في نهاية النفق، يقوم القطاع الصناعي الآن ببناء مخزون، مما يزيد من قوة نشاط الشحن”.
تعافي الصين
بدأت تكاليف الشحن في الانتعاش مع خروج الصين، أكبر مشترٍ للسلع، وتعافيها من الجائحة بشكلٍ أسرع من البلدان الأخرى.
وأدَّى انتعاش التصنيع في الدولة الآسيوية والواردات الضخمة من المحاصيل الأمريكية بهدف إطعام قطيع الخنازير، الآخذ في التوسُّع إلى الواردات السائبة الجافة.
وكانت واردات البلاد كبيرة جداً لدرجة أنَّها ساعدت في ارتفاع تكلفة النقل على معيار حجم باناماكس (وحدة قياس لحجم الشحنة) الذى يلبي حدود الحد الأقصى لقدرة السفن على المرور في قناة بنما – إلى أعلى مستوى منذ أكثر من عقد.
لدرجة أنَّ بعض التجار شبهوا الأمر بسرقة الحبوب الكبرى في السبعينيات، عندما اشترى السوفييت في صمت ملايين الأطنان من الإمدادات الأمريكية.
وقال “بيتر ليندستروم”، رئيس الأبحاث في شركة الشحن النرويجية “تورفالد كلافينيس غروب”: “كانت لدينا شحنات أمريكية قوية جداً استمرت جيداً في الربع الأول، وما زلنا نتوقَّع شحنات ذرة عالية من الولايات المتحدة في المستقبل”.
وأضاف: “سيحدث ذلك في الوقت نفسه الذي لدينا فيه موسم الذروة التقليدي للساحل الشرقي في أمريكا الجنوبية. هذا عامل إيجابي سيبقى لمقياس باناماكس”.
شحنات الفحم
وستتزامن شحنات الذرة الأمريكية الكبيرة في الربع الثاني أيضاً مع زيادة أحجام شحن الفحم، وهي سلعة أخرى ساعدت في زيادة تكلفة الشحن الجاف السائب.
وأدَّى الخلاف التجاري بين أستراليا والصين إلى توقف أكثر من 70 سفينة تحمل أكثر من 8 ملايين طن من الفحم في أواخر العام الماضي، مما قلَّل من وفرة السفن المتاحة للنقل.
وفي حين أنَّ هذا الوضع قد تحسَّن، فإنَّ ما يقرب من 35 شركة شحن لا تزال عالقة، وغير متاحة للقيام برحلات جديدة اعتباراً من وقت سابق من هذا الأسبوع.
وكان للنزاع نتيجة أخرى، إذ يسافر الفحم الآن لمسافات أطول، كما تقوم أستراليا الآن بإرسال الفحم إلى أماكن أبعد، مثل الهند، في حين تشتري الصين المزيد من الوقود من دول، مثل كولومبيا وجنوب إفريقيا. وأدَّى ذلك إلى زيادة استخدام سفن بحجم وحدة قياس “باناماكس” بدلاً من السفن الأكبر.
وقال سيتينوك: “معظم الفحم القادم من أستراليا المتجه إلى الصين يجري نقله بواسطة أكبر ناقلات المواد السائبة الجافة، من نوع فائق الحجم، بعد هذا التحول، جرى تقليص معظم ذلك ليشمل شركات شحن السفن بحجم وحدة “باناماكس”، لذلك يتطلَّب الأمر لنقل الكمية نفسها من الفحم مع السفن الأصغر، المزيد من السفن”.
فرصة موازنة التكلفة
وجلب الانتعاش غير المتكافئ بعض المفاجآت، فقد أشعلت الصين أفران مصانع الصلب الخاصة بها قبل البلدان الأخرى، مما أحدث فرقاً كبيراً بين الأسعار هناك، وفي أمريكا الشمالية والجنوبية، في الوقت نفسه، بدأ الأمريكيون والأوروبيون شراء البضائع المصنوعة في الصين عبر الإنترنت أثناء فترة تفشي الوباء، مما أدَّى إلى ازدحام حركة الحاويات التي يشيع استخدامها لشحن منتجات الصلب.
ونتيجة ذلك أنه يجري تحميل أشياء مثل لفة الصلب المدرفل على الساخن في سفن للشحن السائب ليجري شحنها إلى الأمريكتين، وهي عملية تستغرق وقتاً أطول من تحميل الحاويات الأكثر شيوعاً.
وقال سيتينوك: “وصلت موازنة التكلفة بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي إلى مستوى عالٍ لدرجة أنَّه من المنطقي شحنها بكميات كبيرة “.
العمل بإبداع
وكان على تجار الحبوب أيضاً أن يكونوا مبدعين، مع العديد من شركات الغرب الأوسط التي عادةً ما تشحن الحبوب خصوصاً في حاويات تختار الشحن بالجملة.
وأظهرت بيانات الشحن في البرازيل، أنَّ شركة “كارغيل”، أكبر شركة لتجارة المحاصيل، حجزت سفينة من نوع فائق الحجم، قادرة على حمل 180 ألف طن من الحبوب السائبة، للحصول على شحنة فول الصويا.
وقال ليندستروم: “مع الفوارق التي رأيناها، أصبح من الأرخص كثيراً أن تأخذ ناقلة عملاقة واحدة بدلاً من ثلاث سفن أصغر أو اثنتين من “الباناماكس”، وكان الناس مبدعين”.
وأضاف أنَّ بعض التجار قاموا أيضاً بتأجير الناقلات العملاقة، وتقسيمها فيما بينهم لتحمل سلعاً مختلفة كوسيلة لخفض التكاليف.
ويرى جان ديليمان، رئيس قسم النقل البحري في شركة “كارغيل” في جنيف، أنَّ الشركة ” في وضع فريد” للقيام بمثل هذه الصفقات، نظراً لأنَّ لديها أسطولاً طويل الأجل، وفريقاً متخصصاً في الجمع بين الشحنات التي كان يجري شحنها عادةً على متن سفن أصغر، والمعروفة باسم الطرود.
إغلاق قناة السويس
وإضافة إلى الازدحام، تقطَّعت السبل بنحو 90 ناقلة شحن سلع سائبة في قناة السويس بعد أن علقت بها سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن” في واحدة من أهم نقاط الشحن في العالم.
وقال “رالف ليزكزينسكي”، رئيس الأبحاث في شركة وساطة السفن “بانشيرو كوستا آند كو”، إنَّه من المنتظر أن يكون هناك ازدحام، إذ تصل السفن العالقة في السويس إلى وجهتها في الوقت نفسه، على الرغم من أنَّ الخبراء لا يتوقَّعون أن يكون لها تأثير كبير على الأسعار.
كل ذلك يحدث مثلما أنَّه من غير المتوقَّع أن ينمو أسطول السفن لشحن السلع السائبة، مع وجود عددٍ قليل جداً من الطلبات المسجَّلة بالفعل.
كما تبشِّر حزم التحفيز الاقتصادي والبنية التحتية التي قدَّمها الرئيس الأمريكي جو بايدن بالخير بالنسبة للطلب على السلع، وبالتالي أسعار الشحن.
قال “لارس كريستيان سفينسن”، كبير الإداريين التجاريين في شركة “غولدن أوشين غروب ليمتد”: “نحن إيجابيون تماماً لهذا العام، والعام المقبل، لقد كانت السلع الجافة خامدة على صعيد الطلب بعض الشيء خلال السنوات القليلة الماضية، لكنَّها تنطلق في الوقت الراهن”.
المصدر: 24 – بلومبيرغ