ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء يهدّد المواطن اللبناني في صحته، فهو صار يحسب جيداً جدوى دخوله إلى المستشفى لتلقّي علاج ما، جراحياً كان أم غير ذلك.
“صحّة اللبنانيين في خطر”، عنوان يمكن ربطه اليوم بواقع قد يصحّ وصفه بالكارثي يهدد حياة هؤلاء بعدما أعلنَ أصحاب الاختصاص والجهات المعنيّة في البلاد صراحةً أنّ “الاستشفاء عند رفع التعرفة سيصير للأغنياء فقط”. تصريحات المسؤولين في لبنان خلّفت خوفاً لدى مواطنين باتوا يعيشون كوابيس متراكمة، من ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء، إلى زيادة معدّل البطالة وكذلك الفقر والجوع، وهبوط الحدّ الأدنى للأجور إلى مستويات مقلقة، وتهديدات تطاول الأمن الغذائي، وانعدام القدرة الشرائية. ولا يخفي أشخاص التقتهم “العربي الجديد” خوفهم، إذ إنّ “دخول المستشفى لم يعد ممكناً، وربّما ننتظر حتى تتفاقم حالتنا الصحية لنفكر في الذهاب عند طبيب أو تلقي علاج. فلا قدرة لتأمين التكاليف المالية”.
يخبر طبيب صحة عامة أنّ “أكثر من عشرين مريضا أعرفهم توقّفوا عن المراجعات الدورية وعن متابعة حالاتهم الصحية نظراً إلى ارتفاع بدل المعاينة في العيادة، وكذلك ارتفاع أسعار الفحوص المخبرية وتكاليف الاستشفاء، علماً أنّ المستشفيات لم تعد تستقبل كلّ الحالات. وهذا أمر خطير لأنّ ثمّة أمراضاً لا يمكن إهمالها وتركها بلا متابعة بين فترة وأخرى، وقد نرى للأسف ارتفاعاً في أعداد وفيات أشخاص في منازلهم نتيجة تفاقم وضعهم الصحي وعدم تمكّنهم من زيارة الطبيب”.
في سياق متصل، فإنّ جملة تنبيهات لفت إليها نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون في خلال حديثه إلى “العربي الجديد” تسلّط الضوء على انعكاسات الأزمة المالية على القطاع الصحي، ولعلّ أوّلها مرتبط برفع تعرفة الاستشفاء من أجل الصمود والاستمرار في ظلّ تدهور قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء. ويقول هارون إنّ “نقابة المستشفيات الخاصة أعدّت دراسة مفصّلة للتعرفة بحسب سعر الصرف الرسمي للدولار مع المقارنة بما يساويه اليوم في السوق السوداء (يلامس 12 ألف ليرة لبنانية)، إذ لا يمكن الاستمرار في اتّباع تعرفة وُضعت قبل عشرين عاماً بناءً على دراسة مشتركة بين وزارة الصحة العامة والبنك الدولي ولم تلحظ أيّ تغيير على الرغم من المستجدات على مدى السنين الماضية وتراكم التضخم. من هنا ضرورة رفع التعرفة الاستشفائية (المستندة إلى سعر الصرف الرسمي 1515 ليرة لبنانية) حتى أربعة أضعاف وإلّا فإنّ المستشفيات لن تقوى على الصمود”. لكنّ هارون يدرك أنّ “هذه الخطوة صعبة جداً في بلدٍ يعاني أزمة مالية حادّة، فيما الحدّ الأدنى للأجور صار يساوي نحو دولار ونصف الدولار (بحسب سعر صرف السوق السوداء) في اليوم، ما يجعلنا من أفقر الدول بالنسبة إلى دخل الفرد. ويأتي ذلك في دولة عاجزة عن تغطية تكلفة طبابة مواطنيها، بالتالي نحن في مأزق حقيقي إذ إنّ الجهات الضامنة بدورها لا يمكنها تغطية الزيادة لعدم توفّر المال لديها، فيما المواطن غير قادر كذلك على تحمّل الفروقات (في الفاتورة الاستشفائية)”.
ويبيّن هارون أنّ الدراسة التي أعدّتها نقابة المستشفيات الخاصة تظهر على سبيل المثال كيف أنّ “بدل ليلة في المستشفى المحدّد بـ90 ألف ليرة لبنانية كان يساوي قبل عام ونصف العام نحو 60 دولاراً أميركياً وفق سعر الصرف الرسمي (1515 ليرة) أمّا اليوم فيتراوح ما بين سبعة دولارات وثمانية وفقاً لسعر صرف السوق السوداء (12 ألف ليرة). من جهتها، كانت الولادة الطبيعية وتكلفتها 300 ألف ليرة تساوي 200 دولار وفق سعر الصرف الرسمي، أمّا اليوم فنحو 25 دولاراً في السوق السوداء. وفي ما يخصّ تمييل شرايين القلب، فإنّ تكلفة هذه العملية هي 800 ألف ليرة، وفيما كانت تساوي نحو 530 دولاراً صارت اليوم نحو 70 دولاراً مع تدهور قيمة العملة الوطنية”.
ويتحدّث هارون عمّا وصلت إليه مستشفيات عدّة “لم تعد تجري عمليات جراحية مكلفة، من قبيل جراحة الورك والركبة، أو يترتّب على المريض تحمّل الفروقات. كذلك الأمر بالنسبة إلى العلاج الكيميائي، إذ تتفادى مستشفيات مختلفة استقبال مرضى جدد للعلاج نظراً إلى عدم قدرتها على تأمين الأدوية، لا سيّما أنّ قسماً كبيراً من المستوردين يطلب تسديد الفواتير نقداً عند تسليم الأدوية والمستلزمات الطبية بما يعادل سعر الصرف في السوق السوداء. وهو ما يدفع المرضى إلى تحمّل تغطية الفروقات من جيبهم الخاص، وتُسجّل بالتالي بلبلة كبيرة”.
ويشدّد هارون على أنّ “القطاع الاستشفائي هو جزء من اقتصاد البلد ويتأثر بالأوضاع الراهنة، والحلّ مرتبط بالملف السياسي وضرورة تشكيل حكومة جديدة تحوز على ثقة الجهات الدولية المانحة”. ولا ينفي التواصل مع منظمات دولية “بهدف تقديم الدعم، لكنّ المبادرات قد تقتصر على هبات ومنح محدودة لن تكون كافية. فأيّ مساعدة مطلوبة لتحصين القطاع الصحي الاستشفائي وتسليحه تتطلب استقراراً وحكومة تحمل برنامجاً إصلاحياً يعبّد الطريق أمام الدعم ويؤمّن النهوض الاقتصادي بالبلاد”.
من جهته، يلفت رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاصم عراجي لـ”العربي الجديد” إلى أنّ “انهيار الليرة اللبنانية دفع المستشفيات إلى طلب رفع التعرفة، علماً أنّ من شأن هذا الإجراء أن يساهم في إلحاق العجز بالمؤسسات الضامنة في حال ارتفعت التعرفة ما بين ثلاثة أضعاف وأربعة”. ويؤكد عراجي أنّ “المؤسسات المذكورة لن تتمكن من تغطية الزيادة التي سوف تطلبها المستشفيات عن كلّ مريض، الأمر الذي سوف يحول حتماً دون لجوء كثيرين إلى المستشفيات لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف العلاج. وهو ما يضعنا أمام واقع أنّ المستشفيات للأغنياء فقط”.
بالنسبة إلى عراجي فإنّ “الأزمة سوف تطاول كذلك المستشفيات الحكومية التي لن تتمكن من تأمين شراء المستلزمات الطبية وفق سعر السوق السوداء، بالتالي فإنّ وضعنا الصحي بالكامل ينهار. من هنا ضرورة إجراء إصلاح سريع في البنية التحتية كلّها، وتوحيد الصناديق الضامنة، وإعادة هيكلة القطاع برمّته، وتأليف حكومة جديدة قادرة على جلب المساعدات من الخارج. فالمواطن، وللأسف، يدفع ثمن الأزمات غالياً اليوم”. وأوضح عراجي أنّ “لجنة الصحة النيابية تجري اجتماعات للتوفيق ما بين المؤسسات الضامنة والمستشفيات وإيجاد حلول لتأمين المستلزمات الطبية، لكن لا حلّ من دون استقرار الليرة وتشكيل حكومة”، مضيفاً: “وقد رفعنا كذلك توصية إلى المؤسسات الدولية لمساعدة القطاع الصحي في لبنان. وهذه الأمور تتطلب أيضاً حلاً للأزمة الحكومية بأسرع وقت ممكن”.