اعتاد سكان مدينة إيركوتسك على الشتاء القارس، إذ تقع المدينة في واحدة من أبرد المناطق في روسيا، ولكن بالرغم من ذلك، عندما انخفضت درجة الحرارة إلى تحت الـ60 درجة مئوية في يناير الماضي، ترتب عليهم عواقب جرَّاء ذلك.
فقد ناشد الحاكم إيغور كوبزيف سكان المدينة عبر موقع إنستغرام، قائلاً: “يرجى البقاء في المنزل ما لم يكن هناك سبب شديد الضرورة للخروج”.
وفي ظلِّ موجة البرد القارس، شهدت المدينة أعنف تساقط للثلوج منذ 25 عاماً. وقد ضربت هذه الموجة سيبيريا، والشرق الأقصى، ووسط روسيا. وعندما بدأت درجات الحرارة في الارتفاع في نهاية مارس الماضي، حذَّرت وزارة حالات الطوارئ الروسية من إمكانية حدوث فيضانات خطيرة بسبب ذوبان الثلوج.
وتقول آنا رومانوفسكايا، مديرة معهد “يو إيه إيزرايل للمناخ العالمي والبيئة” (Yu. A. Izrael) في موسكو: “النظام المناخي غير المستقر يسبِّب تزايداً في حالات التطرف المناخي، بما في ذلك الظواهر المناخية الخطيرة، وهذا الاتجاه السائد بات من غير الممكن إنكاره”.
نقص في البيانات
وتعدُّ روسيا أحد أكثر الدول عرضة لتغيُّر المناخ، إذ يقع جزء كبير من أراضيها في المنطقة القطبية الشمالية، التي ترتفع درجة حرارتها بشكل أسرع من بقية العالم بمرتين.
وفي تجلي ذلك؛ ارتفعت درجات الحرارة بشكل غير عادي في سيبيريا خلال عام 2020. كما تمَّ تسجيل عامين متتاليين من حرائق الغابات، وذوبان المناطق دائمة التجمد، التي تغطي مساحات شاسعة من البلاد.
وقد تسبَّبت الكوارث المناخية بأضرار جسيمة، فقد قدَّر وسيط التأمين “أون بنفيلد” أنَّ فيضانات يونيو التي حدثت بالقرب من حدود روسيا مع الصين في عام 2019، كلَّفت الدولة أكثر من 460 مليون دولار. وإجمالاً، فإنَّ الكوارث الكبرى ربما تكون أدَّت إلى خسائر بنحو مليار دولار في روسيا في ذلك العام.
وقال إرنست راوخ، كبير علماء المناخ والجيولوجيا في شركة “ميونيخ ري” العالمية لإعادة التأمين: “موجة الحر التي واجهت سيبيريا في عام 2020، وما قابلها من حرائق واسعة النطاق تعدُّ دليلاً متجدداً على تغيُّر المناخ”.
وأضاف: “نحن ننظر بقلق إلى ذوبان الأراضي المتجمدة، مما قد يؤدي إلى تضخم ظاهرة الاحتباس الحراري من خلال إطلاق غاز الميثان”.
أضرار اقتصادية واسعة
ولم تقم روسيا حتى الآن بتطوير نظام شامل لتقييم الخسائر المرتبطة بالمناخ. كما أنَّ قواعد البيانات الرائدة بالبلاد لا تتبع سوى الأحداث ذات الأضرار المُسجلة. وذلك بحسب ما كتب بعض كبار علماء المناخ التابعين للخدمة الفيدرالية الروسية للأرصاد الجوية المائية، والرصد البيئي (روزهيدروميت)، في ورقة بحثية في عام 2019.
وأفاد علماء المناخ: “البيانات المتعلِّقة بالخسائر هي وصفية فقط في معظم الحالات، في حين تعدُّ التقييمات النقدية نادرة”.
وتشير الورقة أيضاً إلى متطلَّبات السرية والافتقار إلى نظام تأمين متطور، لأنَّهما عقبتان رئيسيتان أمام تقييم الأضرار الاقتصادية التي لحقت بالبلاد جراء الكوارث الطبيعية.
ومن الجدير بالذكر أنَّ نقص البيانات يدل على أنَّ تقديرات شركات التأمين، والباحثين، والهيئات الحكومية الحالية للأضرار الاقتصادية السنوية المتعلِّقة بالطقس في روسيا تختلف اختلافاً كبيراً.
وبرغم أنَّ شركة “ميونيخ ري” كانت تعمل على جمع تقديرات الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية في مختلف أنحاء العالم منذ خمسين عاماً، إلا أنَّها لا تملك سوى معلومات محدودة عن الأضرار السنوية الأخيرة التي لحقت بروسيا بسبب المناخ.
وبهذا الصدد، قال متحدِّث باسم الشركة الألمانية: “نوعية البيانات الخاصة بروسيا غير كافية”.
4 ظواهر جوية شديدة التأثير
وفي ورقة صدرت عام 2019، قدَّم علماء المناخ الروس أنموذجاً حسابياً لتقييم الخسائر الناجمة عن أربع ظواهر جوية شديدة التأثير، وهي الرياح القوية، والأمطار الصيفية، والثلوج، والأمطار الشتوية.
ووفقاً لهذا النموذج، أسفرت الظواهر الجوية عن خسائر مالية تصل إلى 234 مليار روبل (4 مليار دولار) في عام 2017.
وتقول رومانوفسكايا، من معهد “يو إيه إيزرايل”، إنَّ الحسابات لا بد أن تتجه لما هو أبعد من ذلك، بمعنى أنَّها لا يجب أن تضمَّ الخسائر الاقتصادية المباشرة فقط، بل أيضاً الخسائر الاقتصادية الجانبية، مثل الضرر الذي يلحق بصحة السكان والبيئة. كما أنَّها قدَّرت إجمالي خسائر روسيا المتعلِّقة بالطقس لعام 2019 بنحو 850 مليار روبل، مما يعني أنَّ المواطنين العاملين دفعوا حوالي 10 آلاف روبل لكل منهم، فيما تعدُّه كـ “نوع من ضريبة المناخ”.
ولا تزال الحكومة الروسية تحمل نظرة متفائلة إزاء تغيُّر المناخ، إذ تعدُّ روسيا أكبر مُصدِّر للطاقة في العالم، ورابع أكبر مُصدِّر لانبعاثات الغازات الدفيئة على كوكب الأرض، لكنَّها تتخلَّف عن الدول الأخرى في اتخاذ خطوات للحدِّ من التلوُّث.
وتعهدت روسيا بخفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 70% من مستويات عام 1990 بحلول عام 2030، على افتراض أنَّ غاباتها الشاسعة تمتص أكبر قدر ممكن من ثاني أكسيد الكربون. ويعدُّ هذا الهدف منخفضاً للغاية لدرجة أنَّ روسيا قد حقَّقته بالفعل قبل أعوام، ولم تبدِ حتى الآن أيَّ رغبة في تحديد هدف أكثر طموحاً.
وتصنف مبادرة “تعقب الكربون”، وهي مبادرة غير ربحية، مقرُّها المملكة المتحدة، سياسات روسيا بأنَّها “غير كافية بشكل كبير”.
تأثير واسع المدى
وتعمل روسيا على وضع استراتيجية وطنية للمناخ من المقرر تبنيها هذا العام، فقد أشارت تعليقات المسؤولين الأخيرة إلى أنَّ البلاد تستهدف تطوير اقتصاد منخفض الكربون في العقود المقبلة بدلاً من الوصول إلى حياد كربوني كامل.
وفي هذه الأثناء، سيستمر ارتفاع درجات الحرارة افي لقطب الشمالي بالتسبب في اختلالات مناخية أكبر في نصف الكرة الشمالي، بحسب ما ذكر ليوري فاراكين، مدير مركز البحوث العلمية في هيئة الأرصاد الجوية الروسية.
وفي الأسابيع الأخيرة، ربط العلماء درجات الحرارة المرتفعة في القطب الشمالي بموجة البرد التي انتقلت نحو جنوب تكساس، مما أدَّى إلى إغلاق محطات الطاقة، وترك السكان بدون كهرباء.
وقال فاراكين، إنَّ كتل الهواء “تتحرَّك بتواتر أكبر من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب إلى الشمال”، وذلك بدلاً من الدوران بين الغرب والشرق الذي ساد خلال القرن العشرين. وهذا يعني أنَّ انفجار القطب الشمالي قد يصل إلى المناطق الجنوبية على نحو سريع نسبياً، كما يمكن أن تنتقل حرارة البحر الأبيض المتوسط بشكل متسارع إلى المناطق الشمالية.
وتابع فاراكين أخيراً: “هذا الاتجاه سيزداد بشكل لا رجعة فيه في الـعشرة إلى الخمسة عشر عاماً المقبلة”، مما قد يؤدي إلى تقلُّبات أكثر حدَّة في الطقس.
المصدر: 24 – بلومبيرغ