كتب أنطوان فرح في “الجمهورية”:
تنطلق المنصّة الالكترونية في اجواء لا يمكن البناء عليها للقول انّها ستحقّق الفرق الذي كان يأمل البعض حصوله لجهة تأمين نوع من الاستقرار المرِن في اسعار الصرف في السوق الحرة. وبانتظار ما ستؤول اليه مبادرة مصرف لبنان لإراحة اللبنانيين، لا يبدو انّ الراحة ستعرف طريقها الى الناس في المرحلة المقبلة.
من خلال التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان لاعلان آلية عمل المنصة الالكترونية، يتبيّن انّ بعض النقاط التي كان يشوبها الغموض جرى توضيحها، في حين بقيت نقاط أخرى غامضة الى حدٍ ما، وهو غموض مقصود وليس بالصدفة.
من أهم الامور التي توضحت، تلك المتعلقة بهوية من يحق له الحصول على الدولارات أو الليرات من المنصّة الالكترونية. وفي حين كان الاعتقاد السائد أنّ عمل المنصّة سينحصر بالمستوردين وبعض الجهات التي لديها مبررات مُقنعة لشراء الدولار، أوضح مصرف لبنان في تعميمه، انّ المصارف تستطيع عبر المنصّة «تأمين الحاجات التجارية والشخصية لعملائها، أياً تكن صفتهم، وفقاً للعرض والطلب في السوق». وهذا يضع حداً لأي التباس. في المقابل، يحدّد التعميم طريقة البيع والشراء، بحيث انّ المودع لا يستطيع، على سبيل المثال، تحويل جزء من وديعته الدولارية (لولار) الى دولار حقيقي من خلال عملية تحويل مباشرة تنصّ على احتساب سعر الدولار على المنصّة القديمة (Sayrafa) على 3900 ليرة، وشراء دولارات بالمبلغ. بل المطلوب ان يسحب المال بالليرة، ومن ثم يشتري نقداً الدولار الحقيقي من المنصة. في تبسيط للموضوع، لا يمكن البيع والشراء دفترياً بشكل مباشر عبر الحسابات المصرفية، بل ينبغي حصر العمليات بالاموال النقدية الورقية بالليرة وبالدولار.
النقطة التي بقيت غامضة عن قصد، هي تلك المتعلقة بثلاثة أمور:
اولاً- كيف سيتمّ تأمين المال لانطلاق العملية في كل مصرف على حدة؟ هل انّ مصرف لبنان سيخصّص مبلغاً مقطوعاً بالدولار للمصارف، ام انّ المصارف ستتعهد بذلك؟
ثانياً- ما هو السعر الذي سيجري تحديده لانطلاق العمل في اليوم الاول؟ هل سيتمّ اعتماد سعر السوق السوداء، ام سيتمّ تحديد سعر اكثر انخفاضاً؟ وفي هذه الحالة، كيف ستتأمّن الدولارات لتغطية المرحلة الاولى التي ستكون محصورة في الشراء بانتظار ان يتبرمج السعر الموازي في السوق السوداء، ويصبح مساوياً لسعر المنصة، وينتفي بذلك مبرر وجوده؟
ثالثاً- هل من كوتا يومية لحجم التبادل، خصوصاً لجهة بيع الدولار، ما دامت المشكلة تكمن في حجم الطلب على الدولار وليس في حجم الطلب على الليرة؟ وعندما تنفد الدولارات المخصّصة لعمل المنصّة من المصرف هل يتوقف عن البيع، ام انّ مصرف لبنان سيتدخّل عندها لضخ دولارات تلبّي الطلب؟ ومن أين سيموّل المركزي الصندوق الذي سينشئه للمنصة؟
رابعاً- اذا توقف الدعم في هذه الفترة بالتزامن مع انطلاق المنصّة، سيزيد الطلب على الدولار لزوم تأمين الاستيراد، وهو طلب كبير نسبياً يُقدّر حجمه مع احتساب التراجع المتوقع في الاستيراد بحوالى 500 الى 600 مليون دولار شهرياً. كيف سيتمّ امتصاص هذا الطلب؟
في المقابل، ستؤمّن المنصة الالكترونية شفافية كبيرة لانسياب الدولار في السوق الحرة، وسيصبح في مقدور مصرف لبنان مراقبة السوق بدقة، ومعرفة تحركات سوق الصرف بيعاً وشراءً، ومعرفة هوية من يشتري ويبيع، وبالتالي، سيكون في مقدور المركزي ان يعرف عندما تحصل مضاربات مشبوهة لأسباب تجارية أو سياسية. وهذا تطور ايجابي، خصوصاً في ظل التوجّس الموجود لدى البعض، من وجود مؤامرات دائمة تهدف الى رفع سعر الدولار اصطناعياً. وقد شهدنا هذا النوع من الشكوك عندما ارتفع الدولار الى 15 الف ليرة، واستدعى رئيس الجمهورية حاكم مصرف لبنان وسأله عن اسباب هذا الارتفاع غير المبرّر. بوجود المنصّة يستطيع الحاكم ان يجيب بالتفصيل الممل ماذا يجري في السوق الحرة، ويبيّن اذا ما كان هناك من يشتري الدولار لمجرد زيادة الطلب ورفع السعر، وممارسة ضغوطات سياسية على هذا أو ذاك.
في المحصلة، ومن خلال مضمون التعاميم التي صدرت، ومن خلال الوقائع المعروفة سواء لجهة القدرات المالية لمصرف لبنان، أو لجهة السيولة الدولارية التي تستطيع ان تؤمّنها المصارف لسوق الصرف، يمكن التأكيد انّ سعر الليرة لن يكون ثابتاً بعد المنصّة، بل سيبقى عرضة لأهواء السوق المرتبطة بدورها بالحاجة والواقع. وبالتالي، واذا لم يطرأ جديد يخفّف من منسوب التشاؤم القائم، ومن الحاجة المتزايدة الى دولار غير متوفر، ينبغي ان نتوقّع استمرار انهيار الليرة في المرحلة المقبلة، ولن تكون المنصة اكثر من وسيلة لتشريع سوق الصرف الحرة، بدلاً من تركها في الشارع تحت مُسمّى السوق السوداء.