كتب ذو الفقار قبيسي في “اللواء “:
لو كان جنون الدولار يقاوم بالمنصات الإلكترونية والملاحقات القضائية، لكانت الأنظمة الديكتاتورية القمعية أكثر قدرة من سواها على ضبط سعر صرف عملتها الوطنية. وهذه الحقيقة تكفي لوقف التكهنات والتحليلات حول مدى جدوى أي ترتيبات «اصطناعية» للحد من الارتفاع المتواصل في سعر الدولار، ومنها «المنصة» التي جاءت اعترافا بالأمر الواقع في اعتماد سعر صرف للدولار قريب من سعره في السوق الموازية، جاء وكأنه «تبييض صفحة ما سميّ خطأ سوق سوداء» سعر الصرف فيها هو السعر الحقيقي لمعادلة العرض والطلب، وتأكيد على أن أي سعرا آخر حتى ولو جرى «حقنه» بدولارات يضخها مصرف لبنان، لن يكون فقط استنزافا أو تبديدا لاحتياطيات العملات الأجنبية، وإنما عملية «سوء ائتمان» باستخدام أموال المودعين في مغامرات مالية إرضاء لغايات سياسية ما يزيد من حجم المسؤولية والعقوبة الجزائية، توجب تجنّب التدخل من قبل مصرف لبنان لتغيير سعر المنصة، والاكتفاء بما يرد إليها من دولارات لبيعها الى التجار والمؤسسات والأفراد بسعر السوق، بدلا من أن ينحصر التداول كما هو حاصل الآن، بمؤسسات الصيرفة المرخصة وغير المرخصة في «سوق عكاظ نقدية» البليغ الفصيح فيها من يتحكم بالكمية الأكبر من العملات الأجنبية، وهو في هذه الحالة لم يعد البنك المركزي الذي سيكون في المنصة الجديدة «حكما» Arbitre لا حاكما gouverneur… إلا إذا حصل وتدفقت الى المنصة دولارات «طازجة» Fresh، وهذا ما يبدو مستبعدا على الأقل في المدى المنظور، في وقت بلغت احتياطيات العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان الخط الأحمر، وتراجع دفق الدولارات الخارجية، ولا سيما الاغترابية التي كانت تصل الى ٨ مليارات دولار سنويا وانخفضت تقريبا الى النصف نهاية العام ٢٠٢٠، مع تراجع الاستثمارات الخارجية المباشرة FDI وحتى غير المباشرة، بما لا يبقي أي فرصة أمام لبنان سوى الحصول على موارد بالعملات الأجنبية من الصناديق والأسواق الدولية والعربية، الأمر الذي يحتاج الى اصلاحات عبر تأليف حكومة لم تطل بشائرها حتى الآن في المدى القريب.
وفي هذه الحالة، واستحالة استمرار مصرف لبنان بدعم السلع الأساسية باستنزاف ما تبقّى من احتياطيات العملات الأجنبية، فإن الاضطرار الى وقف الدعم سيأخذ البلاد الى فوضى أمنية تطيح ما تبقّى من النزر اليسير من مقومات الدولة والمجتمع والمؤسسات، ويفتح الباب واسعا أمام النزاعات الأهلية والتدخلات الاقليمية والدولية في بلد بات يعاني من نسبة فقر ٦٠% وفقر مدقع ٢٥% وبطالة ٦٠% وانكماش اقتصادي ٢٥% (مضافا إليها ١٠% متوقعة لهذا العام) واستمرار انخفاض ايرادات الخزينة 17,58% خلال الـ١١ شهرا من العام ٢٠٢٠ الى ١٢٠٣٩ مليار ليرة (مقابل ١٤٦٠٧ مليار ليرة في الفترة نفسها من العام ٢٠١٩) ومنها تراجع الايرادات الضريبية ٢٠% وضريبة القيمة المضافة ٤٩% وايرادات الجمارك ٣١% وايرادات الاتصالات 7,34% (الى ١١٨٣ مليار ليرة نهاية تشرين الثاني ٢٠٢٠) مع استمرار العجز في الموازنة العامة بـ٤٠٣٨ مليار ليرة عن ١١ شهرا من العام ٢٠٢٠، وارتفاع لا يتوقف في «عداد» الدين العام باتجاه ١٠٠ مليار دولار هي بالمقارنة مع ناتج اجمالي بـ١٨ مليار دولار، بين الأعلى وربما الأعلى في العالم!
وهذا الوضع المالي الذي يزداد عجزا لا يمكن مواجهته بـ «منصات» ولا بطبع المزيد من الليرات، وإنما باجتذاب المزيد من الدولارات في اقتصاد مدولر من صادرات وسياحة وودائع وتحويلات واستثمارات. وآليات كل هذه القطاعات تعطلت واستنزفت بالفساد وسوء الاستعمال ولا بد من تغييرها، فهي لم تعد صالحة للعمل ولو بالمزيد من قروض ستكون مجرد «عطور» لا تنفع في إصلاح نظام أفسدته الدهور!