لم يكد الناس ينسون الوعود الواهية التي أطلقها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بخفض سعر الصرف، من خلال منصّة “صيرفة”، إلى ما دون 10 آلاف ليرة لبنانية، حتى أطلّ، أوّل من أمس، عبر قناة “العربية – الحدث”، مطلقاً وعداً جديداً أكثر “سوريالية” بقدرته وقدرة القطاع المصرفي على ضمان تنفيذه.
كشف سلامة أنّه سيبدأ، بعد نحو شهر من اليوم، بدفع 50 ألف دولار لكلّ مودع، على أن يكون هذا المبلغ مقسّطاً ومقسّماً إلى قسمين: الأوّل 25 ألف دولار نقداً (فريش دولار)، فيما الثاني هو 25 ألف دولار بالليرة اللبنانية.
لكنّ كلام سلامة أغفل جملةً من التفاصيل:
– أوّلها أنّه لم يكشف عن المصدر الذي سيدفع من خلاله هذه الأموال.
– وثانيها هو تغفيله الجهة التي ستدفع: هل هو مصرف لبنان أم هي خزائن المصارف؟ خصوصاً أنّ “المركزي” لا علاقة له بالمودعين، وتنحصر علاقته بالمصارف فقط.
– وثالثها هو كيفيّة الدفع، ووفق أيّ سقوف وأيّ جدولة.
– رابعاً وأخيراً: وفق أيّ سعر صرف، بعد أن بات “المركزي” أوّل مصرف في العالم يدير 3 أسعار صرف شبه رسمية ومتفاوتة، بفارق يصل إلى نحو 900%: فالأول هو سعر الصرف الرسميّ بـ1500 ليرة، والثاني سعر صرف السحوبات بـ3900 ليرة، والأخير هو المستحدث أخيراً، ويخصّ سعر صرف المنصّة بـ12 ألف ليرة.
هذا الحديث عن تحرير ودائع صغار المودعين، أعادنا سنةً كاملةً إلى الخلف، تحديداً إلى نيسان 2020 يوم أفتى سلامة بموجب التعميم رقم 148، بتحرير حسابات المودعين دون سقف 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة، شرط إقفالها. في حينه قُدّرت هذه الحسابات التي دُفعت أموالها، بنحو 1.6 مليون حساب، أي قرابة 60% من حجم الحسابات كاملة، ويُفترض أنّها باتت اليوم غير معنيّة بإعلان سلامة الأخير، وأنّ الحسابات المتبقّية (40% المتبقّية) هي قرابة مليون حساب فقط، وهذا فعلاً ما كشف عنه سلامة.
كشف سلامة أنّه سيبدأ، بعد نحو شهر من اليوم، بدفع 50 ألف دولار لكلّ مودع، على أن يكون هذا المبلغ مقسّطاً ومقسّماً إلى قسمين: الأوّل 25 ألف دولار نقداً (فريش دولار)، فيما الثاني هو 25 ألف دولار بالليرة اللبنانية
لكن ربطاً بما أعلنه الحاكم، وبعمليّة حسابيّة بسيطة، لنفترض أنّ الحاكم أراد تقسيط الـ25 ألف دولار على دفعات قيمة كلّ منها 500 دولار شهرياً. حينها سيحتاج إلى 500 مليون دولار في الشهر الأوّل، إذا افترضنا أيضاً أنّ أصغر حساب لا تقلّ وديعته عن 3 آلاف دولار. وعليه، سيحتاج سلامة إلى 6 أو 7 دفعات شهرية مماثلة، أي إلى 3 مليارات دولار “كاش” حتّى نهاية 2021، في أقلّ تقدير. وهذا رقم كبير ربّما يفوق قدرة المصارف على توفيره.
فمن أين للمصارف كلّ هذه الأموال؟
المعلومات تفيد بأنّ سلامة قام على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، بالاجتماع إلى رؤساء مجالس إدارات المصارف فرادى، ليطلب منهم “تأمين الدولارات الكاش هنا في بيروت”، وذلك بخلاف تلك الموجودة في المصارف المراسلة في الخارج. ورسم خطّة ترمي إلى تقسيط المبالغ التي تحدث عنها على 3 سنوات بمبلغ إجمالي يراوح بين 14 و15 مليار دولار، أي بحدود 5 مليار سنوياً.
مصدر مصرفي مطّلع على تفاصيل هذه الخطة، كشف لـ”أساس” أنّ سلامة “يطمح إلى خفض نسبة الاحتياط الإلزامي لتحرير ما قيمته 4 مليارات دولار منه”. وهذا يفترض خفض نسبة الاحتياطي من 15% الحالية إلى نحو 11%، وأنّ يضغط “المركزي” لـ”إشراك المصارف في القرار” من خلال “حضّها على الدفع” ضمن التوزيعة التالية:
– المصرف المركزي يحرّر 4 مليارات من الاحتياط الإلزامي.
– تتكفّل المصارف بدفع مليار دولار من جيبها.
وهذا ربّما يشير إلى أنّنا مقبلون على وقف الدعم كلّيّاً، بخلاف ما يحاول البعض الإيحاء. لأنّ تحرير هذا الاحتياط ودفعه لا يمكن أن يتزامنا مع استمرار دعم السلع. وربّما سيكون هذا الاجراء من “المسكّنات” المطلوبة لضبط “حمّى ارتفاع الأسعار”.
المصدر نفسه كشف أنّ “عدد الحسابات المصرفية كاملة كان قرابة 2.6 مليون، لكنّ الجدّيّة منها تُقدّر بنحو مليون حساب فقط، وهي المعنيّة بهذا الإجراء، تتوزّع على الشكل التالي: 400 ألف رصيدها تحت 100 ألف دولار، و600 ألف رصيدها فوق 100 ألف دولار، ومن ضمنها 43 ألف حساب فوق 500 ألف، تشكّل 57% من حجم الودائع (أكثر من النصف)”.
وعن مدى جديّة هذا الطرح وإمكان تطبيقه، لفت المصدر إلى أنّ “الطرح قابل للتطبيق”، لكنّه في المقابل قد يكون باباً جديداً لعربدة المصارف”، إذ لم يستبعد أن “يتسبّب بالغبن لبعض المودعين من خلال الدفع إلى هذا دون ذاك، أو إمكان تمرير مبالغ كبيرة للكبار منهم، وحرمان الصغار الضعفاء”، مستخلصاً أنّ الأمر قد لا يكون إلاّ “محاولة لذرّ الرماد في العيون”.
وختم المصدر حديثه لـ”أساس” بسؤال: “هل من المنطق أن يُدفع 25 ألف دولار لمن يُحتجز لهم فوق مليون دولار مثلاً؟ فإن وافق هؤلاء المودعون ما على المصارف إلاّ تقبيل أياديهم وجِباههم”.
واعتبر مصرفيّ آخر أنّ “ما قاله الحاكم يوحي بأنّه سينتهي إلى إعادة أموال المودعين، لكنّه في الحقيقة يشبه هندسة مالية مقنّعة، هدفها إعادة تعويم مالكي المصارف، وليس القطاع المصرفي ولا المودعين. فقد انحدرنا من مرحلة حماية القطاع المصرفي إلى مرحلة حماية المصرفيّ الفاسد”.
سيحتاج سلامة إلى 6 أو 7 دفعات شهرية مماثلة، أي إلى 3 مليارات دولار “كاش” حتّى نهاية 2021، في أقلّ تقدير. وهذا رقم كبير ربّما يفوق قدرة المصارف على توفيره
كما رأى المصرفيّ الذي رفض الإفصاح عن اسمه، أنّ مصرف لبنان قد يكون ملزماً بتحرير التوظيفات الإلزامية للمصارف، لكن لا سلطة له على المصارف لفرض دفع أموال المودعين، ولا إملاء السقوف عليها أو جدولة تقسيطها. فالعلاقة هي بين المصارف وعملائها، خصوصاً أنّ دفع الودائع قانوناً مرتبط بالعقد الموقّع بين الطرفين، ولا يمكن دفع مبلغ 25 أو 50 ألف دولار لمودع تخضع وديعته للتجميد أو حصل مقابلها على قرض. ولهذا يمكن اعتبار كلام سلامة “غير مكتمل قانونياً”، ولا يمكن تطبيقه بالصيغة التي كشف عنها إلاّ بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب، ويقرّ صراحة بالآليّة المتّبعة”.
ووضع المصدر ما قاله سلامة عبر أثير “العربية – الحدث” في خانة “تعويم بعض المصرفيين”، حيث ستبقى الاستنسابية، كما العادة منذ بداية الأزمة، سيدة الموقف، وستبقى ودائع الناس خاضعة لسلطة رؤساء مجالس إدارات المصارف وأهوائهم في الدفع من عدمه، حتى لو تحرّرت أموال الاحتياط الإلزامي لمصلحة المصارف.
لكن بعيداً عن هذا الكلام التقني كلّه، تفيد المعلومات بأنّ ظاهر خطة سلامة “نقدي” لكنّها فعلياً “تنطلق من الوضع السياسي المعقّد في لبنان”. فهي تفترض البحث عن سبيل استمرار تدفّق الدولارات بين أيدي اللبنانيين حتّى منتصف العام 2022، تاريخ إجراء الانتخابات النيابية، ومشارف نهاية “العهد”. خصوصاً بعد أن باتت حظوظ تشكيل حكومة جديدة ووضع خطة إصلاحية، ضرباً من ضروب المستحيل.
حسابات الحاكم تنطلق من مبدأ المحافظة على الـStatus quo القائم بكلفة 4 أو 5 مليار. وربّما توصل البلاد إلى برّ الأمان، فيكون بذلك قد أخرج أرنباً جديداً من كمّه يصبو من خلاله إلى “اجتراح معجزة النجاة من الانهيار الكامل”، على حساب المودعين ودولاراتهم والمصارف أيضاً، على قاعدة “من دهنه سقّيلو”!