لم يعد هناك ما يجمع بين اللبنانيين أكثر من محطات الوقود في بلدهم. وكلما فرقت الأزمة الاقتصادية والصحية والسياسية بينهم تجمعهم طوابير محطات البنزين، التي باتت مسرحاً يفتح على جمهور كبير ومتاح أمام كل من يريد التعبير.
أمام المحطات تسمع شتائم للدولة للمحطات للموزعين للدولار لليرة، شعارات ثورية تصل أحيانا إلى حد الخطابات، يخرج أشخاص من سياراتهم بعد طول انتظار ليقدموا مطالعة سياسية بالمصطفين، صرخة أو فورة غضب، فحواها رفض الواقع.
تشهد نشطاء يبثون ساعات الانتظار عبر مواقع التواصل، وصحافيون يحللون الأزمة مباشرة على الهواء، والكل يعبر. بعضهم يصرخ بالعامل على المحطة وآخر يطلب المدير ليتفاوض معه على ٢٠ ليتر إضافي لأن طريقه طويلة. البعض يعبر بعضلاته فيضرب ويضرب، والبعض الآخر يستعرض سلاحه فيطلق النار أو يقتل، تندلع اشتباكات على أثر تنكة بنزين.
فكاهة في لحظة ذل
على هامش حفلة التعبير هذه، هناك من يعبر فكاهيا، ويطلق العنان لحسه الكوميدي، فالمسرح موجود والجمهور كثيف والطوابير باقية يومياً حتى إشعار آخر. يومياً عشرات المقاطع المصورة الفكاهية تجد سبيلها للانتشار الكثيف على مواقع التواصل الاجتماعي.
بالأمس وصل شخص من بلدة بيت ليف جنوب لبنان إلى بلدة عيتا الشعب الحدودية مشياً بحثاً عن مادة البنزين المنقطعة من المحطات ليملأ سيارته التي انقطعت به بعدما فرغت أيضا، لم يسمح له بملء غالون بلاستيكي بسبب قرار وزارة الاقتصاد بمنع ذلك نتيجة عمليات سحب البنزين وبيعه وتهريبه بالجملة والمفرق، ودرجت ظاهرة بسطات البنزين على الطرقات مع ما يمثله تخزينها من خطورة أدت إلى حرائق عدة في أكثر من منطقة سكنية في البلاد.
لم يسمحوا للشاب بتعبئة الغالون البلاستيكي، فما كان منه إلا أن عاد إلى سيارته ونزع منها خزان البنزين متوجها به إلى المحطة حيث كان الجمهور المصطف في الطابور على موعد مع وصلة كوميدية لمشهد غير مألوف، لكنه صفعة معنوية لشعب كامل بات مضطراً لهذه الحيل والأساليب ليحصل على أبسط حقوقه بتوفير مواده الأساسية.
لم يحصل الشاب على غايته رغم ما فعله، ما يظهره الفيديو تجاهل من صاحب المحطة وانشغاله بإشكال آخر مع امرأة تطلب زيادة على الكمية المقننة التي يخصصها صاحب المحطة لكل سيارة.
أزمة الوقود في لبنان
الكوميديا تنتقل إلى المواقف التي فرضتها الأزمة على الناس، لكونهم لم يتوقعوا يوماً أن يكونوا في العام ٢٠٢١ منقطعين من مادة تقوم عليها كل تفاصيل حياتهم وتنقلاتهم. فمن المؤكد أن انقطاع عريس من البنزين بسيارة عرسه هو أمر خارج عما خططه ليوم عرسه.
عريس يملأ سيارته بالبنزين
عريس يملأ سيارته بالبنزين
أما الكوميديا المخطط لها، كانت من بطولة شركة انتاج وتصوير قررت أن تسوق لنفسها من خلال حملة تقوم على فتح احدى محطات البنزين أمام السيارات والإتيان بفرقة زفّة فولكلورية بالطبل والزمر وبالتصوير طبعاً، حيث انتشرت الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقت ردود فعل مختلفة، بين من رأى في المشهد التفاتة لطيفة لرسم ابتسامة على وجوه الناس الشاعرين بذل الطوابير، وبين من هاجم الشركة واتهمها بتبسيط المعاناة والمساهمة في تطبيع المشهد وتجميل المعاناة واستغلالها لأهداف تسويقية.
تتحول محطات البنزين إلى معلم ثابت في حياة اللبنانيين ويومياتهم، تنعكس في خلفية صورهم اليومية على مواقع التواصل وهم ينتظرون في طوابير البنزين. صور تنتشر لأشخاص بثياب النوم امام المحطات، أو حتى بثياب الاستحمام. والبعض يشحن يخته من البحر إلى محطة البنزين ويصوره.
مشاهد أكثر خطورة
كل ذلك تعبير أيضاً، فحوى الكوميديا يضيق ذرعاً بالحال التي وصلوا إليها، لكن آخرين تخطوا مرحلة التعبير السلمي. الإشكالات أيضاً باتت مألوفة وطبيعية أمام المحطات، لكن الأخطر أن عمليات إطلاق النار ترتفع بنسبة كبيرة في هذه المواقع بالذات.
يكاد لا يخلو يوم من حادثة إطلاق نار او استخدام سلاح أبيض زمام محطة بنزين، اليوم أفادت وسائل إعلام محلية عن وقوع إشكال بين موظف في محطة وقود وأحد المواطنين بمنطقة البداوي شمال البلاد، ليتطور لاحقاً إلى إشهار مسدس حربي، عملت بعدها قوة من الجيش والمخابرات على تطويق الإشكال والذي عرف أنّ سببه عدم تمكن المواطن من تعبئة الوقود.
قبل أسبوعين قتل الشاب غيث المصري أمام محطة المحروقات التي تملكها العائلة في بلدة ببنين – عكار والسبب نفسه، زبون لم يرض عن كمية البنزين المخصصة. هذه الحادثة أدت فيما بعد إلى اشتباكات مسلحة داخل البلدة بين العائلات.
إشكالات كبير وتحطيم محطات تنقلت بين المناطق وكان اعنفها ما شهدته إحدى محطات المحروقات في منطقة صور، جنوب لبنان، حيث قامت مجموعة من الأشخاص بتكسير وتحطيم ماكينات تعبئة الوقود أمام أعين الناس، وأطلقوا الشتائم والسباب بحق صاحب المحطة وعمالها والدولة على خلفية رفض عامل المحطة التعبئة لهم لتجاوزهم الدور.
البنزين قد يحرق الأمن
استمرار الأزمة يهدد الأمن الاجتماعي للمواطنين بشكل حقيقي، فالأزمة بمجملها وغياب الدولة الفاعلة أمنياً واجتماعيا وسياسياً، يضع اللبنانيين أمام توقعات ارتفاع نسب العنف والجريمة وحوادث القتل وانتشار السلاح بفعل ازدياد نسب الفقر الذي تجاوز عتبة ال٥٠٪ والبطالة التي تهدد ٦٠٪ من المجتمع في المرحلة المقبلة.
يؤكد عضو نقابة أصحاب محطات الوقود جورج البراكس في حديث لموقع الحرة أن الأزمة مستمرة ولا افق واضح لنهايتها قريباً طالما أن آلية استيراد المحروقات تتم بهذه الطريقة عبر صرف اعتمادات من قبل مصرف لبنان واستيراد محدود ومتأخر دائما على حاجة السوق، وطالما أن عمليات التهريب إلى سوريا تستنزف احتياطات البلاد ومخزونها من المحروقات.
ويشتكي اللبنانيون أيضاً من عمليات الغش التي تمارسها بعض المحطات وباعة البنزين في السوق السوداء. من ناحية المحطات فإن الشكوى الأكبر تأتي لناحية التلاعب بالعدادات والأسعار، فيما يعمد بعض المحطات إلى تقاضي رشاوى من المواطنين مقابل مضاعفة الحصة المخصصة لكل سيارة، حتى باتت عرفاً لدي العاملين على المحطات حيث يقومون بتخفيض حجم الحصة المخصصة لكي يحصلوا على الرشوة.
من جهة أخرى يطال مادة البنزين نفسها عمليات غش وتلاعب بمحتواها، البعض يخلطها بماء لزيادة الكميات، ووصل الأمر في السوق السوداء إلى حد تعبئة ماء مغلي بالنعناع الذي يضفي اللون الأخضر المشابه للون البنزين وبيعها على الطرقات السريعة، ليقع المواطنون المنقطعون على الطرقات من مادة البنزين ضحية عمليات الاحتيال هذه في ظل إغلاق محطات البنزين لأبوابها.
تقنين عشوائي ودوام رسمي!
وبات للمحطات شبه دوام محدد بساعات الصباح الأولى وحتى فترة الظهر، يجري خلاله تقنين التوزيع بشكل عشوائي خاضع لمزاجية صاحب المحطة، ومن بعدها يصبح الحصول على مادة البنزين أمر شبه مستحيل، وهو ما نشط أيضاً تجارة المادة في السوق السوداء.
عن هذه الظاهرة يؤكد البراكس أن التقنين الذي يعتمده أصحاب المحطات سببه التقنين الذي يمارس عليهم من قبل شركات استيراد وتوزيع المحروقات، التي بدورها تعاني مع مصرف لبنان في تأخير صرف الاعتمادات اللازمة ضمن خطة دعم المحروقات من قبل الدولة، إضافة إلى الحديث عن وقف هذا الدعم بين لحظة وأخرى ما يؤثر على طلب الاستيراد وعملية التوزيع والتخزين في الداخل.
ويضيف البراكس “الأزمة في لبنان ليست بالمحروقات وانما بتوفر الدولارات لدى مصرف لبنان من اجل استيرادها، هذه المشكلة تنتج انخفاضاً بالكميات المستوردة عدد الاعتمادات التي تتاح لشركات الاستيراد، وبالتالي يضطر أصحاب المحطات إلى توزيع ما يحصلون عليه أسبوعيا من الشركات على مدى الأيام التي تفصل عن موعد تزويدهم مرة أخرى، وتقنين في الكمية لضبط عمليات السحب والإحتكار لبيعها في السوق السوداء أو تهريبها ولتكفي الكمية المتوفرة زبائنه على الاسبوع.”
ويدعم مصرف لبنان مجموعة من السلع الرئيسية كالدواء والمحروقات والمعدات الطبية والطحين وسلع غذائية رئيسية، من أجل توفيرها بأسعار أقل في السوق اللبنانية عن سعرها بالدولار، وذلك لتبرير تثبيت سعر صرف الدولار أمام الليرة وفقاً للتسعيرة الرسمية (١٥٠٧ ليرة = ١ دولار) فيما الدولار اليوم يساوي ١٢٨٠٠ ليرة لبنانية، أي أنه يغطي تكلفة استيراد المحروقات بنسبة ٩٠٪ على سعر الصرف الرسمي و١٠٪ على سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء.
هذه الـ١٠٪ تتحكم اليوم بسعر البنزين في الأسواق اللبنانية ومعها سعر برميل النفط العالمي، ارتفاع الرقمين بات يؤدي حتما إلى ارتفاع في سعر تنكة البنزين في لبنان بحسب ما يؤكد البراكس. وتجاوز سعر صفيحة البنزين في لبنان اليوم ال٤٢ ألف ليرة فيما يتوقع زن يصل سعرها إلى ١٨٠ ألف ليرة في حال رفع الدعم الرسمي عنها.
أما فيما يخص عمليات الغش فيؤكد البراكس “أن وزارة الاقتصاد هي المخولة وحيدة بمراقبة المحطات والاستجابة لشكاوى المواطنين بشأن عمليات الغش ولا يمكن لأحد قانونياً أو بالإمكانات أن يحل محل وزارة الاقتصاد والدولة في هذه المسؤولية، ونطلب من الدولة التشدد في هذا المكان ولتعامل سريعاً مع هذه الشكاوى لما فيها من غش وإضرار بمصلحة اللبنانيين.”
في المقابل تعاني وزارة الاقتصاد اللبنانية من ضعف الإمكانات والمخصصات المالية الكافية لعملية مراقبة الأسواق وضبطها ومن بينها سوق المحروقات.
الأزمة مستمرة والحل بعيد
أما فيما يخص واقع الأزمة حالياً، يؤكد البراكس أن “الأمور ستتجه نحو انفراجات منذ الغد مع وصول باخرة محملة بالمحروقات إلى لبنان، فيما مخزون البلاد يكفي لنحو ١٥ يوماً، وهذا ما يعني أن الأزمة مستمرة في الفترة المقبلة إذ أن البلاد تحتاج إلى رفع مخزونها ليكون كافياً لمدة شهر على الأقل.
ويختم البراكس داعياً إلى التوقف عن ممارسة سياسة “حبة المسكن” في معالجة أزمة المحروقات وفتح اعتمادات تكفي البلاد وموسم الصيف وموسم السياحة ومجيء المغتربين، بدلاً من خسارة كل هذه الفرص التي يحتاجها اللبنانيون في زمن الأزمة بأزمة بنزين.
المصدر: الحرة