كتب محمد وهبة في “الأخبار”:
النقطة المركزية التي يتمحور حولها قرار مجلس شورى الدولة القاضي بوقف تنفيذ التعميم 151 بكل التمديدات التي طرأت عليه، هي سعر الليرة. فهذا السعر أساسي للتدقيق في المسار الذي رسمه مصرف لبنان لإطفاء خسائر النظام المالي، وحاسم في عملية احتساب أصول المصارف وإعلان إفلاسها، وضروري كأداة سياسية للتعامل مع الأزمة وإدارة نتائجها. ففي حيثيات القرار الكثير مما يمكن اعتباره أسئلة تصيب أصل عملية توزيع الخسائر؛ من إخضاع المودعين لعملية اقتطاع واسعة على ودائعهم، ومخالفات واسعة لقانون النقد والتسليف التي تفرض أن يقوم مجلس النواب بتسعير الليرة، ومخالفات قانون الموجبات والعقود وسط مئات القضايا العالقة بين المصارف والمودعين… إنه قرار يعكس حالة العجز التي تمر بها السلطة، وهو بحدّ ذاته قرار عاجز أيضاً عن تقديم أي حلّ. إنه قرار يحاول التموضع وسط فوضى الانهيار وسلوك السلطة في إدارة نتائجه التي تحققت أو تلك التي ستتحقق لاحقاً.
القرار الإعدادي، أو التمهيدي، لم يبت في أساس الحيثيات التي أوردها في متنه، لكنه يحدّد، مبدئياً، وجهة القرار النهائي باعتباره يتبنى، جزئياً أو كلياً، غالبية الحيثيات التي دفعته إلى اتخاذ قرار وقف التنفيذ، أي إنه يميل إلى ترجيح كفّة الجهة التي تقدمت بالمراجعة، والتي تقول إنها تعرضت لضرر بالغ بسبب تعميم مصرف لبنان الذي يحمل الرقم 151 والتمديدات التي طرأت عليه. هذا الضرر ناتج عن كون التعميم يتيح للمودعين خيار سحب ودائعهم على سعر صرف يبلغ 3900 ليرة لكل دولار. وهذا التعميم هو الحدّ الأقصى لاسترداد قيمة الوديعة.
إذاً، السؤال الذي يستوجب طرحه: بأي سند قانون أصدر المجلس المركزي لمصرف لبنان تعميماً يحدّد سعر صرف يوازي 3900 ليرة لكل دولار؟ كيف توصل مصرف لبنان إلى هذه المعادلة فيما كان سعر السوق يوازي 7000 ليرة؟ لماذا لم يحدّد مصرف لبنان السعر الأقرب إلى السوق كما يرد في المادة 229 من قانون النقد والتسليف؟
هذه الأسئلة أثارت الكثير من النقاش خلال وقت قصير. فمِن مصلحة مَنْ أن يصدر قرار كهذا في توقيت حساس ودقيق، أي في ظل عجز قوى السلطة عن تأليف حكومة، وانفراد مصرف لبنان بصنع سياسات احتواء الأزمة «على ذوقه» وبعيداً عن خطة التعافي التي أقرّتها الحكومة المستقيلة، ووسط خلافات عميقة بين أركان السلطة على شكل الحكم بدلاً من الاختلاف على مشروع للحكم. ثمة عيّنة من الأسئلة التي طرحت أمس: هل القرار صدر لأن رئيس مجلس شورى الدولة، وهو رئيس الهيئة الحاكمة التي صدر عنها القرار، هو عوني الهوى، وبالتالي اتخذ قراره سياسياً لرمي كرة النار نحو مجلس النواب وربما في محاولة لتأجيج الشارع؟ هل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يريد استخدام هذا القرار بوجه المصارف في ما يشاع عن خوضه معركة إخضاعهم لكل القرارات التي سيصدرها لاحقاً؟ هل المصارف لها مصلحة في قرار كهذا؟
في الواقع، ثمة الكثير من الاحتمالات التي يمكن أن تكون حقيقية، لكن الثابت بينها أن القرار – وبمعزل عن هويته السياسية أو مراعاته لمصلحة ما على أخرى – يثير أسئلة تعيد فتح النقاش في مسائل أساسية: هل من الجائز أن يخضع المودعون للهيركات أو لاقتطاع من ودائعهم من دون صدور قانون في مجلس النواب أو خطة ما من الحكومة؟ هل ما يقوم به مصرف لبنان هو السلوك الصائب لإدارة الانهيار وتوزيع الخسائر؟ هل يفترض أن يحصل المودعون على ودائعهم بالدولار النقدي أو بأي وسيلة يرتضون بها؟ هل يجب إفلاس المصارف التي لا تتمكن من أن ترد المال المسلم لها أو يماثله قيمة؟ هل يحق لمصرف لبنان الانفراد بإطفاء الخسائر بشكل يؤدي إلى تضخّم الأسعار بشكل جنوني ويغذّي ضعف الليرة لتنخفض قيمة المدخرات بشكل متواصل؟ أليس هناك تواطؤ بين مصرف لبنان و«نواب المصرف» و«وزراء المصرف» ورؤساء الكتل السياسية أيضاً؟
لا يحق لمصرف لبنان الانفراد بإطفاء الخسائر بشكل يؤدي إلى تضخّم الأسعار بشكل جنوني ويغذّي ضعف الليرة
محور كل هذه الأسئلة هو قيمة الليرة وسعرها في السوق. سعر الليرة يحدّد عملية توزيع الخسائر، وتطبيق قانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود (المواد 701 و702 التي تلزم المصرف بتسليم الوديعة إلى المودع عند الطلب ومن دون تحديد ماهيتها، سواء كانت مبالغ مالية أم أسهماً أو ذهباً…) وسواها، ستكون مبنية على سعر الليرة. النتائج المترتبة على تسعير الليرة تحدّد من سيدفع ثمناً أكثر أو أقل في عملية توزيع الخسائر، وبالتالي تنطوي على نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية.
لذا، من الواضح أن قرار مجلس شورى الدولة تبنّى فكرة أن تسعير الليرة يجب أن يصدر بقانون في مجلس النواب. فهو اعتبر أن التعميم المطعون فيه، يشكّل تجاوزاً لحدّ السلطة وتعدياً على الصلاحيات التشريعية. فالليرة اللبنانية كانت مسعّرة بالذهب عندما كان بنك الإصدار مشتركاً بين لبنان وسوريا، لكن في المرحلة الانتقالية بعد الانفصال بينهما، نصّت المادة 229 من قانون النقد والتسليف على تحديد سعر انتقالي لليرة «أقرب ما يكون إلى سعر السوق»… ومن وقتها لم يحدّد مجلس النواب سعر الليرة، وهو ما يثير التساؤل عن تسعير الليرة على أساس 3900 ليرة، وتخيير المودعين بين سحبها على هذا السعر أو على سعر 1500 ليرة.
وإذا أصرّ القاضي الياس على موقفه بشأن هذا الأمر، أي تسعير الليرة من قبل مجلس النواب، فإن مجلس النواب، الذي يمثّل بغالبيته «حكم المصرف»، سيكون أمام معضلة حقيقية تدخل في صلب الانهيار. فكل قرار سيرتّب نتائج نقدية ومالية واقتصادية واجتماعية، تدخل فيها حسابات الربح والخسارة لشرائح مختلفة، هذا طبعاً عدا عن الإحراج السياسي.
ثمة مشكلة ثانية تتعلق بالخطوة التالية التي سيقوم بها مصرف لبنان. فهو عندما ردّ على الطعن المقدّم ضد التعميم الصادر عنه، تذرّع بأن السلامة العامة هي المحرّك الأساسي الذي دفعه إلى إصدار التعميم. وهذا الأمر يثير سؤالاً أساسياً: أيّهما يحمي السلامة العامة، دفع الودائع على سعر 3900 ليرة، أم تسديدها بالدولار النقدي، أم تسديدها بسعر السوق؟ قد يتذرّع سلامة بعملية تكسير الصرافات الآلية من أجل الطعن في القرار ودفع مجلس شورى الدولة للعودة عنه، لكن الأولى به إعلان إفلاس المصارف التي لا تتمكن من تسديد الودائع. فالمصارف لم تخسر قرشاً واحداً منذ بداية الأزمة، بل كانت تحصل على إيرادات مالية متواصلة من المال العام، سواء من فوائد سندات الخزينة، أم من شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان ومن ودائعها لدى مصرف لبنان أيضاً. هذه الإيرادات كانت كبيرة بما يكفي لتمويل ما يترتب من مؤونات عليها لتغطية خسائر الملاءة المالية. حساب الأرباح كان يموّل عجز السيولة الذي وقعت فيه. هذا العجز يعني إفلاسها. الإفلاس يعني توزيع الخسائر. فمن سيدفع الثمن؟ من يحدّد أي جهة ستدفع ثمناً أكثر من غيرها؟ مصرف لبنان انفرد بهذا الأمر، وقرّر أن يدفع صغار المودعين والغالبية الساحقة من القوى العاملة والمؤسسات الصغيرة، كما حدّد تقرير البنك الدولي الأخير، ثمناً غالياً عبر اقتطاع موارب من الودائع، وشطب سوقي للأصول يتحكم فيه الأكبر والأكثر قدرة، وترك الأسعار في مهب التضخّم الحرّ الذي يأكل الأجور والرواتب. حاكم مصرف لبنان وأعضاء مجلسه المركزي يعملون من أجل المصارف، باسم السلطة.