الأزمات المتفاقمة في البلد، من المحروقات إلى فقدان الأدوية وإقفال المستشفيات أبوابها أمام المرضى وغيرها، تحجب أزمات أخرى بدأت تظهر وتتسارع وتيرتها، من شأن تجاهلها أن تفجّر أزمة سكنية لا تقل وطأة عما نعانيه من معضلات.
هذه الأزمة تتمثل في نقمة لدى المالكين، تكبر يومًا بعد يوم وتتعاظم مع كل قفزة دولار، أبرز مظاهرها تبنّي المالكين شعار ” لا للإيجار” الذي يملأ صفحاتهم على وسائل التواصل الإجتماعي، ودعوات بعضهم البعض للإنكفاء عن تأجير الشقق، وعدم تجديد الإيجارات القديمة، معتبرين أنّ بدلات الايجار أضحت زهيدة بفعل انهيار العملة، وأنّه لم يعد هناك جدوى من التأجير بنظرهم، طالما أنّ بدلات الايجار خسرت 90 % من قيمتها، وترميم الشقق المؤجّرة بعد إخلائها يكلّفهم أضعاف ما يتقاضونه. هذا الواقع من شأنه أن يخلق مشكلة لدى فئة كبيرة من اللبنانيين الذين لا يملكون منازل، ويقطنون بالإيجار، وقسم من هؤلاء غير قادر على تحمّل زيادات في بدلات الإيجار بظل الأوضاع المعيشية الصعبة.
تحدثنا مع عدد من المالكين، هؤلاء، لا سيّما القدامى منهم، يشعرون أنّ الغبن يلاحقهم مهما تبدّلت أحوال البلد، تارةً لأنّ قانون الإيجارات مُدّد على مدى عشرات السنوات وأتاح للمستأجرين البقاء في أملاكهم بشكل شبه مجاني، وبإيجارات متواضعة لم تكن تتخطى بضع دولارات في زمن دولار الـ 1500، وتارةً أُخرى لأنّ القانون الذي صدر منذ سبع سنوات، لم يُطبّق كما يجب لغاية اليوم، قبل أن تحل كارثة تهاوي سعر الصرف، ما أدى إلى انخفاض قيمة الإيجارات إلى حدودها الدنيا، لاسيّما بالنسبة للمالكين الذين يعتاشون من بدل إيجاراتهم. من الشعارات التي يرفعها المالكون “لا تؤجّر عقارك، عدم تطبيق القانون لا يحمي ملكيتك” “الأسعار نار، والإيجار مدعوم على السعر الرسمي، وعيش يا مالك”.
رزق الله: لا ثقة لنا بحماية أملاكنا
نقيب مالكي العقارات والأبنية المؤجرة باتريك رزق الله أوضح في حديث لـ “لبنان 24” أنّ خطوة انكفاء المالكين عن التأجير ليست ضدّ المستأجر، إنّما هي صرخة يطلقونها، تعبيرًا عن مخاوفهم وعدم ثقتهم بقدرة الدولة على حماية أملاكهم وحماية عقود الإيجارات الموقّعة بينهم وبين المستأجرين “ما يعزز هواجسنا هذه أنّ المجلس النيابي لغاية اليوم لم يبادر إلى تحرير الإيجارات غير السكنية، وهذا أمر مقلق للغاية، فهناك 25 ألف وحدة غير سكنية مؤجّرة وفق القانون القديم، وقد أصبحت بدلاتها شبه معيبة لا تتخطى الـ 5 $ شهريًا. وهذا القانون مُدّد العمل به في المجلس النيابي قبل أشهر مدّة سنة ولمرّة أخيرة، ورغم ذلك لم يبادر المجلس النيابي إلى إقرار مشروع القانون المرسل من الحكومة لتحرير الإيجارات غير السكنية “.
أضاف رزق الله “الليرة تواصل هبوطها، وعمليًّا لا يمكن للمالك أن يستمر بالقبض وفق دولار الـ 1500، بينما يدفع لقاء متطلبات المعيشة والإستشفاء ومجمل الخدمات وفق سعر السوق الموازية، بالمقابل هناك موجات تحريض من بعض اللجان التي تدّعي تمثيل المستأجرين لعدم دفع بدل الإيجار إلا وفق سعر 1500 وإيداعه عند كاتب العدل، وهو سعر مدعوم من مصرف لبنان، وغير موجود بالفعل وبالقانون، ومن شأن ذلك أن يدخلنا بنزاعات قضائية مكلفة. بالتالي وفق بدلات الإيجار يجد المالك نفسه غير قادر على الإستمرار بصيانة ملكه، ويتعذّر عليه إصلاح أيّ عطل في المنزل، كل هذه الأمور خلقت مخاوف لدى المالكين من تكرار تجربة الأربعين عامًا، وما خلّفته من خسائر في الإيجارات القديمة جعلت عددًا كبيرًا منهم ينكفئ عن التأجير”.
أزمة المالكين لا تقتصر على تدني قيمة بدلات الإيجار مع تخطي الدولار عتبة الـ 15 ألف في السوق الموازية، بل تتعداها إلى أداء السلطات كافة، التشريعية التنفيذية والقضائية، يقول رزق الله ” أقرّ المجلس النيابي قانون الإيجارات لتحرير الإيجارات السكنية ضمن برنامج، وعلى رغم مرور سنة على تشكيل اللجان القضائية التي يقع على عاتقها تحديد فئة المستأجرين المستفيدين من الصندوق، لم تنظر هذه اللجان إلى اليوم في الطلبات المقدمة، لتحديد المستحقّين ووقف استغلال الأمر من قبل بعض المستأجرين الذين يدّعون زورًا الإستفادة من الصندوق، وهذا أمر خطير يطرح علامات استفهام على المسار القضائي، وعلى مدى قدرة القضاء على حماية المالكين، خصوصًا بظل ما نشهده من تجاذبات تطال القضاء وتنعكس على عمله، كالخلافات بين نقابة المحامين ومجلس القضاء الأعلى، فضلًا عن الأوضاع غير المستقرّة في البلد من النواحي السياسية الإقتصادية والمالية”.
ختم رزق الله “نحن كنقابة للمالكين نتابع الموضوع، وندعو الدولة إلى أخذ مبادرات وخطوات جدّية لتفعيل عمل اللجان القضائية، وتحرير الإيجارات غير السكنية، لإعادة الثقة المفقودة وكي نقدم على الإستمرار في خدمة الإيجار بما يصب في مصلحة المالكين والمستأجرين. هدفنا من إطلاق الصرخة ليس ضرب خدمة الإيجار بل إنقاذها وتعزيزها في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها، ضمن المنطق والعدالة، فالمالك يعتاش من بدلات الإيجار، ولا يمكن له أن يستمر بهذه المداخيل الزهيدة”.