ما إن بدأ الحديث عن ما أسماه مصرف لبنان “إفراج جزئي عن الودائع”، وإصداره لاحقاً التعميم رقم 158، مع التحفظ على العملية برمتها، أخذ سعر صرف الدولار بالإرتفاع بشكل متسارع حتى بلغ مستوى قياسياً جديداً فاق 15500 ليرة خلال أيام قليلة. وليس مُستبعداً استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسية جديدة قد تفوق المستويات الحالية.
لا دوافع أو مقوّمات تدفع بالليرة اللبنانية للصمود في وجه الدولار. فأسباب الانهيار النقدي وتصاعد سعر صرف الدولار حتى انفلاته لا تزال قائمة، في ظل تخبط القرارات، وغياب تام للمعالجات العلمية، وتخفيف تدريجي سريع للدعم، وقرارات وتعاميم ملتبسة، وعودة نشاط التطبيقات الإلكترونية، وتصاعد حدة الأزمة السياسية، إضافة إلى عامل جديد، هو دخول بعض المصارف على خط السوق السوداء للدولار.
انعدام الثقة ونشاط التطبيقات
قد لا تكون السوق السوداء للدولار خاضعة لعملية العرض والطلب على وجه الخصوص، غير أنه لا يمكن تجاهل الطلب الكبير على الدولار الذي يُعد الملجأ الأكثر أماناً اليوم في لبنان، بعد انهيار الثقة بالسلطتين السياسية والنقدية. فالمواطن اللبناني لم يعد يؤمن بأي حلول سريعة لمعالجة الأزمات، وعليه يبقى اللجوء إلى ادخار الدولارات المأمن الوحيد في وجه أي تطورات سلبية في المستقبل.
وطالما أن العلاقة بين الجمهور والحكومة ومصرف لبنان وعموم السلطة السياسية والنقدية يحكمها فقدان الثقة، لا يمكن التعويل على أي من القرارات الآنية أو التعاميم المصرفية أو حتى المنصات أو اقتراحات القوانين وغيرها من المحاولات الشعبوية للتعامل مع الأزمة، فلعامل الثقة دور أساسي في صمود العملة أو انهيارها بشكل متسارع.
ولا شك أن انعدام الثقة يشكّل أرضاً خصبة للتطبيقات الإلكترونية التي تتاجر بالعملة وتدخل بمضاربات على الليرة والدولار والشيكات، فتتحكّم بسوق الصرف الهش، وتساهم بخفض سعر صرف الدولار بشكل مفاجئ، كما حصل ليل الثلاثاء 15 حزيران حين تراجع سعر صرف الدولار من 15500 ليرة إلى نحو 14600 ليرة خلال ساعات، ليعاود الارتفاع سريعاً صباح اليوم الأربعاء إلى محيط 15250 ليرة. هذه السلوكيات، وإن كانت طبيعية في ظل الفوضى العارمة في البلد، لكن لا يمكن قراءاتها سوى بمضاربات متعمّدة تستهدف تحقيق أرباح طائلة خلال ساعات.
أزمة سياسية… لا بطاقة ولا دعم
وإذا كانت عملية تشكيل الحكومة قد تؤسس لبعض الاستقرار والثقة، تمهيداً لمعالجة الأزمة والمباشرة بإصلاحات، فإن هذا الأمل بات ضئيلاً جداً، أقله في المدى المنظور. فالأجواء السياسية لا تشي إلا بمزيد من التعقيدات، خصوصاً بين التيار والوطني الحر والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري، ما يجعل من ولادة الحكومة في وقت قريب أمر مستبعد جداً.
حتى البطاقة التمويلية التي باشرت اللجان النيابية مناقشة أحد إقتراحات القوانين المقدّمة بشأنها، لا تزال بعيدة التطبيق، فهي تفتقد حتى اللحظة التمويل اللازم لها وآلية واضحة للتطبيق، كما تواجه عقبة المسح الشامل للعائلات المستحقة، وسوى ذلك من الأمور التقنية التي تقف حائلاً دون موافقة البنك الدولي على تقديم الدعم لها.
أما العامل الأكثر خطورة فيتعلّق بوقف الدعم، وعدم إصدار البطاقة التمويلية الداعمة للأسر الأكثر فقراً ولتمكين العائلات اللبناينة من تعويض انهيار قدرتها المعيشية. ففي مقابل التقاعس في إطلاق البطاقة التمويلية نشهد تراجعاً في قدرة مصرف لبنان على الدعم، وتقليص تدريجي له، حتى أن دعم المواد الغذائية قد توقف كلّياً. أما دعم الأدوية والمستلزمات الطبية والبنزين وباقي المحروقات، فقد أعلن مصرف لبنان اليوم عدم قدرته على الاستمرار بدعهما، مطالباً الحكومة “بإقرار خطة لترشيد الدعم”، مشدداً “على أنه لن يستعمل التوظيفات الإلزامية، على أن الدفعات التي يقوم بها حالياً، هي من ضمن الفائض عن التوظيفات الإلزامية”.
طلب المصارف والمستوردين
على خط آخر، يعمل الكثير من المستوردين على تأمين سيولة من الدولارات لضمان استمرار عمليات الاستيراد، لاسيما للأدوية والمحروقات، تحسّباً لقرار مفاجئ بوقف دعمها، ما يرفع عملية الطلب على الدولار في السوق السوداء بشكل كبير.
وليست المصارف بريئة مما يحصل. فبعضها باشرت شراء الدولارات من السوق السوداء، مع إعلان مصرف لبنان قراره بشأن “الإفراج الجزئي” عن الودائع. وأحد كبار المصارف، حسب معلومات “المدن”، يشتري الدولارات من السوق بأسعار تفوق السوق السوداء وتصل أحياناً إلى 17000 ليرة للدولار، ذلك تمهيداً لتطبيق التعميم 158 وتجنّباً لاستخدام السيولة التي تم تشكيلها في المصارف المراسلة خارجاً.
هذه العوامل تجتمع على رفع سعر صرف الدولار، ويُضاف إليها عامل المنصة الإلكترونية التي أطلقها مصرف لبنان على سعر صرف 12000 ليرة للدولار. فالسعر المعتمد بالمنصة يمهّد بشكل غير مباشر لارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء إلى ما يفوق سعر المنصة بأضعاف. وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى سلوك مخالف لطبيعة الأسواق النقدية. بمعنى أن الفارق الكبير الذي يتجه إليه سعر صرف الدولار بين سعر المنصة وسعر السوق السوداء، أمر طبيعي، لكون المنصة الإلكترونية مقيدة وتخضع لشروط ومعايير محددة. وهو ما يُفقدها قوتها ودفعها ويحيل القوة إلى السوق السوداء، التي هي اليوم سوق حرة بلا أي قيود.