تواصل الليرة اللبنانية تدهورها المدوي، لتكسر حاجز الـ15 ألفا مقابل الدولار في السوق السوداء التي تتحكم بالقيمة الفعلية للعملة الوطنية، في حين سعر الصرف الرسمي صار أشبه برقم وهمي، لثباته على 1507 ليرات.
ورغم أن تهاوي الليرة صار واقعا يعيشه اللبنانيون منذ انطلاق عجلة الانهيار الاقتصادي قبل نحو عامين، منتصف 2019، فإن انفلات سعر صرف الدولار إلى مستويات غير مسبوقة بتاريخ لبنان يترافق هذه المرة مع واقع يزداد عبثية وسوءا، كأن البلاد قفزت إلى مرحلة جديدة من انحلال مؤسساتها والبنى التحتية، وفقا لمؤشرات عدة، من بينها:
-عدم تشكيل حكومة منذ تكليف الرئيس سعد الحريري قبل نحو 8 أشهر لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة دوليا من لبنان.
-انقطاع لعدد كبير من المواد الأساسية كحليب الأطفال وبعض الأدوية والمستلزمات الطبية.
-شح كبير بالمحروقات أجبر اللبنانيين على الوقوف ساعات يوميا في الطوابير عند محطات الوقود بسبب -تقنين توزيع مادة البنزين.
-انقطاع للكهرباء نحو 18 ساعة يوميا يهدد اللبنانيين بالعتمة الشاملة.
-ارتفاع هائل بأسعار المواد الغذائية وفوضى بالأسواق.
-استمرار عمليات تهريب المواد الأساسية عبر المعابر غير النظامية.
-الفقراء الجدد
والمفارقة أن الانهيار لم يستثن أحدا من اللبنانيين، وهم يتسابقون بحثا عن الحاجات الأساسية بعد أن تدحرجت قدرتهم الشرائية إلى حدودها الدنيا، مع خسارة الليرة أكثر من 90% من قيمتها، ومن كان محسوبا على الطبقة الوسطى صار مهددا بالفقر، ومن كان فقيرا أصبح يرزح تحت خط الفقر المدقع.
وبعد أن كان القطاع العام (الرسمي) ملاذ اللبنانيين الطامحين إلى توفير الاستقرار المعيشي والمادي، نظرا إلى الرواتب المناسبة والتقديمات المرافقة لها وتعويضات نهاية الخدمة، صار موظفو هذا القطاع، وهم بعشرات الآلاف، يتكبدون خسائر كبيرة بقيمة رواتبهم.
هذا ما تقوله المواطنة نيللي حبيب (47 عاما) الموظفة في إحدى الدوائر الرسمية بالدولة منذ 24 عاما.
كانت نيللي تعيش استقرارا بسبب راتبها البالغ 3 ملايين ليرة، وتوفر منه مختلف حاجاتها مع أسرتها، وتستطيع الادخار للسفر والترفيه. ولكن هذا الراتب الذي كان يساوي ألفي دولار أميركي أصبح يوازي أقل من 200 دولار، وقيمته مرشحة للتضاؤل مع بلوغ الدولار معدلات 15 ألفا و300 ليرة.
تصف نيللي للجزيرة نت ما لحق بموظفي القطاع العام بالصادم، بعد أن صارت رواتبهم لا تكفيهم لشراء المواد الغذائية وتسديد المستحقات الشهرية، ما يدفعهم للاستدانة بعد أن كانوا ملجأ أقاربهم غير الميسورين.
وتعطي مثالا بسيطا عن تغيير زيت السيارة، إذ قبل انهيار الليرة كانت كلفته لا تتجاوز 100 ألف ليرة، أما اليوم فصارت أكثر من 400 ألف ليرة، أي ما يوازي ربع راتبها، وثلثي راتب العمال الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور (6500 ألف ليرة).
وقالت إنها تشعر بالإحباط عندما تتذكر أن تعويض نهاية الخدمة سيخسر قيمته أيضا، لكنها تخشى الآتي، “إذ يبدو أكثر ظلما وقسوة”.
ويتهم معظم اللبنانيين التجار باحتكار المواد الأساسية في مستودعاتهم، لبيعها لاحقا بأسعار مرتفعة، خصوصا أن موعد رفع الدعم عن السلع الأساسية الذي توفره الحكومة، عبر مصرف لبنان المركزي، صار وشيكا، وفق محللين، نتيجة استنفاد ما بقي لدى المركزي من احتياطي بالدولار قابل للاستعمال، كان قد انخفض من نحو 31 مليار دولار قبل خريف 2019 إلى نحو 15 مليار دولار.
وهنا، يرى رئيس مجلس إحدى مؤسسات التجزئة في لبنان، حسان عز الدين، أن استمرار انهيار الليرة بين ساعة وأخرى يتسبب بضياع التجار وآلية التسعير.
ويوضح للجزيرة نت أن العلامات التجارية هي من ترفع أسعارها ولا يرفعها التجار ولا المستوردون الذين يريدون حماية أنفسهم ورأسمالهم، للتمكن من استيراد السلع مجددا.
وينفي عز الدين احتكار السلع “لأن جميع التجار قادرون على الاستيراد”، ولكن المشكلة، وفقه، تكمن في تأخر المركزي في فتح اعتمادات لهم لتسديد فواتيرهم بالدولار المدعوم للخارج، كذلك يواجهون صعوبة توفير الدولار النقدي، بعد أن صارت معظم الجهات ترفض التعامل بالشيكات المصرفية، نتيجة تعدد سعر الصرف.
ولكن لماذا تسجل الليرة انهيارات كبيرة في أوقات وجيزة؟
تتجاوز قفزات الدولار بلبنان المنطق الاقتصادي، وفق كثيرين، سواء على مستوى العوامل الدافعة أو على مستوى المراحل الزمنية.
وإذا أخذنا واقع الليرة في 2021 فقط، يتبين أنها استقرت بالشهرين الأوليين عند معدلات 9 آلاف ليرة، ثم سجلت أول خرق لسقف الـ10 آلاف ليرة نهاية فبراير/شباط 2021، وربطه حينئذ اقتصاديون بانتهاء مهلة تعميم 154 -الذي يطلب فيه المركزي من المصارف زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20% وتكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة بالخارج- ضمن خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
وفي غضون أسابيع، لامس الدولار في مارس/آذار 2021 سقف الـ15 ألف ليرة، ثم تراجع تدريجيا ليستقر عند معدلات 13 ألف ليرة، ثم قفز قبل أيام في يونيو/حزيران 2021 فوق 15 ألفا، وهو ما ربطه اقتصاديون أيضا بتعميمين آخرين لمصرف لبنان.
الأول، إطلاق المركزي منصة صيرفة (Sayrafa)، لقيام المصارف المشاركة بها بعمليات بيع الدولار للتجار، بناء على آليات محددة، وفق سعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد.
الثاني، إصدار المركزي قبل نحو أسبوع التعميم رقم 158 الذي يسمح للمودعين ابتداء من مطلع يوليو/تموز 2021 بسحب 800 دولار شهريا من ودائعهم المحتجزة بالمصارف التجارية، وتنقسم إلى جزئين: 400 دولار نقدا و400 دولار بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف منصة صيرفة، أي 12 ألف ليرة.
ولأن التعميم الأخير شكل ضغطا على المصارف التجارية، يرجح الباحث والخبير الاقتصادي خليل جبارة لجوء المصارف إلى السوق السوداء، بغرض تجميع الدولارات، ما يمثّل ضغطا بالطلب عليه.
ويبدو أن العوامل الدافعة لعدم استقرار الليرة ليست اقتصادية بالضرورة، وفق حديث جبارة للجزيرة نت، لأنها ترتبط بالمضاربات، واختراق القوى السياسية السوق السوداء نظرا إلى صغر حجمها، من أجل ممارسة ضغوط شعبية، والدليل أن الدولار أصبح يسجل ارتفاعاته بعطلة نهاية الأسبوع التي تتراجع فيها عمليات العرض والطلب.
من جهته، يشير الخبير المتخصص بقانون المصارف، خالد شاهين، إلى أن البنوك منذ بداية الأزمة كانت تحاول جمع الدولارات من السوق، لتأمين سيولة كافية لمتطلباتها من تعاميم المركزي، و”لكن هذا الأمر ليس السبب الكامن وراء ارتفاع سعر صرف الدولار”.
ويربط شاهين ارتفاع سعر صرف الدولار بعدم انتظام السوق الموازية لأن الدولار كان يسجل ارتفاعات كبيرة حتى قبل تعاميم المركزي، مذكرا أن المنصات الإلكترونية التي تعمل من الخارج تسعى لإدارة حركة السوق السوداء أيضا، ولكن العامل الأساسي، وفقه أيضا، هو سياسي.
ويرى الخبير أن بعض القوى السياسية تسعى إلى الاستفادة من التلاعب بالليرة، “من أجل الإمعان بضرب القطاع المصرفي قبيل تنفيذ كل تعميم، ومن ثم اتهام المصارف التجارية بشراء الدولار من السوق”.
وتعقيبا على ذلك، يرى خليل جبارة أن كل مصرف يلجأ إلى جمع الدولار من السوق من الأفضل أن يغلق أبوابه لأن هذه الأفعال تعني إفلاسه، وأنه غير قادر على تأمين دولار المودعين، بعد أن فقد قدرته على البقاء.
دولة فاشلة؟
ونُشرت دراسة جديدة صدرت عن مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية ببيروت، في 14 يونيو/حزيران الجاري، حذرت من خطر سقوط لبنان إلى مرتبة الدول الفاشلة، بعد تراجعه 36 مركزا على مدى 5 سنوات، ليصبح ترتيبه في عام 2021 بين الدول الـ34 الأكثر إخفاقا من أصل 179 دولة.
ومن التوصيات التي دعا إليها المرصد، المباشرة برفع الدعم الحالي تدريجيا على مدى سنتين، مع إبقاء الدعم على القمح ودعم المازوت وأدوية الأمراض المستعصية دعما جزئيا.
ويرى خالد شاهين أن خيار المركزي لم يكن صائبا بدعم السلع الأساسية، ولكن سلطته محدودة وليست جزائية، وهو مجبر قانونا على تنفيذ ما تطلبه الحكومة ووزارة المالية ضمنا.
ويرى كثيرون أن السلطات تضع اللبنانيين أمام خيارين: إما تقنين حصولهم على معظم المواد الأساسية، وإما توفيرها بأسعار غير مدعومة، وذلك يعني أن تكون جميع السلع مرهونة لفوضى المضاربة بالسوق السوداء.
ومن ثم، يرى خليل جبارة، أنه في حال لم يلجم تعميم 158 للمركزي مطلع يوليو/تموز سعر صرف الدولار، بعد منح المودعين جزءا من دولاراتهم، فهذا يعني أن لبنان سيكون مفتوحا على شتى احتمالات الانهيار، وأن تستمر الليرة بسقوطها إلى هاوية لا قعر لها.