التاريخ يعيد نفسه في لبنان. ففي عام 1986، وفي خضم الحرب الأهلية وانعكاساتها على الاقتصاد اللبناني، تعالت أصوات عديدة تطالب ببيع احتياطات الذهب الموجودة في المصرف المركزي، التي قدرت حينها بنحو ثلاثة مليارات دولار، وكانت توازي تقريباً قيمة احتياطي العملات الصعبة لدى مصرف لبنان.
وكادت السلطة حينها توافق على بيع جزء كبير من مخزون الذهب بالليرة باللبنانية، وبأقل من 4 في المئة من السعر العالمي، مراهنةً على تقدم حاملي العملات الأجنبية للاستفادة من السعر المغري وإبدالها بالليرات اللبنانية ليتمكنوا من شراء الذهب، في مقابل تقدم حاملي الليرات اللبنانية كذلك لشرائها مما سيخفف التضخم.
إلا أن حملة رفض عارمة قادها حينها حاكم المصرف المركزي، إدمون نعيم، واجهت المقترح، ومنعت تحقيقه، لضرره على الاقتصاد اللبناني، والذي بقي قائماً طوال الحرب بسبب هذا الاحتياطي من الذهب.
ويحتل لبنان المرتبة الثانية عربياً بعد السعودية، والـ20 عالمياً في قيمة احتياطي الذهب. وبحسب أرقام مجلس الذهب العالمي، فإن لبنان يمتلك 286.5 طن من الذهب مقسمة على 9.228.457 أونصة، بقيمة تقارب الـ17 مليار دولار. وعليه، فإن ثروة لبنان من الذهب باتت تساوي نحو نصف الأصول بالعملات الأجنبية، ما يضع لبنان في المرتبة الـ17 عالمياً، والأولى عربياً، في نسبة الذهب إلى الاحتياطيات بالنقد الصعب.
دعاوى دولية
ومع تدهور الوضع المالي اللبناني منذ نهاية عام 2019، وبلوغه مستويات غير مسبوقة، اتجهت الأنظار إلى احتياطي الذهب الذي ظل مجرد الحديث عن إمكانية المساس به خلال السنوات الماضية من المحظورات، لاعتباره من قبل البعض ضمانة لليرة اللبنانية وثبات سعر صرفها.
مصدر في المصرف المركزي أشار إلى أنه كان بالإمكان الاستفادة من الاحتياطات الضخمة التي يمتلكها لبنان لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، إلا أن إعلان الحكومة اللبنانية عن التوقف عن سداد ديونها للخارج من دون التفاوض مع الدائنين أجهض إمكانية الاستدانة أو رهن الذهب أو حتى بيع جزء منه.
وقال إن “اتفاقية عقود إصدار سندات الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) التي أبرمتها الدولة اللبنانية عام 1996، تنص في أحد بنودها على قبول الدولة اللبنانية الخضوع لقوانين محاكم نيويورك المدنية لحل أي نزاع بينها وبين دائنيها في حال تخلفها عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية، وهو ما يعني أن الذهب اللبناني خاضع للولاية القضائية الأميركية، لا سيما أن احتياطات الذهب موزعة بين البنك المركزي اللبناني والبنك الفيدرالي الأميركي والسويسري”.
ووفق المصدر نفسه، فإنه لو تم تعديل النص القانوني في المجلس الذي يمنع المساس باحتياطي الذهب، فهناك عقبات أخرى ستتفاقم، إذ سيرفع الدائنون دعاوى قضائية على لبنان في مختلف دول العالم، وسيكون احتياطي الذهب على رأس الأصول المحجوزة في الخارج. ولفت إلى أن عديداً من دول العالم وضعت ذهبها في الخزائن الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية في مقابل الحصول على المساعدات التي نصت عليها خطة مارشال لإعادة بناء اقتصاداتها المدمرة.
وأوضح أنه لا يتوقع أن توافق الولايات المتحدة على قبول طلب لبنان استرداد جزء من احتياطاته لديها، نظراً للعقوبات التي تفرضها على “حزب الله” والقيود الكثيرة التي بدأت تتزايد على القطاع المصرفي اللبناني خوفاً من ولوج الحزب إلى النظام المصرفي الدولي من خلال لبنان. واستشهد بمحاولات فنزويلا التي تسعى منذ عام 2018 إلى استرداد 14 طناً من ذهبها الموجود في الخزائن الأميركية، بسبب العقوبات التي تمنعها من التصرف بأصولها الخارجية.
تبديد الذهب
وفي السياق، رأى المحلل الاقتصادي زاهر عيدو، أن قضية تسييل الذهب خاضعة للقانون رقم 42/1986، الذي “منع منعاً مطلقاً بيع ذهب مصرف لبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب”، ومن ناحية أخرى يخضع لمدى قبول الولايات المتحدة تلبية طلب لبنان فك الحجز عن الذهب لدى البنك الفيدرالي الأميركي.
وأشار إلى أنه في ظل غياب الثقة بالمؤسسات اللبنانية وعدم وجود خطة جدية وواضحة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، لا مؤشرات إيجابية توحي بأن الدولة اللبنانية قادرة على استخدام تسييل الذهب بالشكل المناسب، لافتاً إلى أن فرص تبديد الذهب، كما تم تبديد العملة وصولاً إلى المس بالاحتياطي الإلزامي كبيرة جداً.
وتخوف عيدو من أن تكون الأرقام الصادرة عن المصرف المركزي غير دقيقة، الأمر الذي فتح النقاش حول بيع الذهب، وهو الملاذ الأخير، مشدداً على ضرورة تغيير عقلية إدارة القطاع في لبنان بشقيه الاقتصادي والنقدي.
فاتورة الخضوع لإيران
أما المحلل الاقتصادي روي بدارو، فيقول إن تسييل الذهب لن يصبح أمراً واقعاً إلا عندما يستنفد كل الاحتياطي الإلزامي، مشيراً إلى أن “بقاء لبنان في محور الممانعة وتحت جناح إيران سيمنع عنه المساعدات الدولية والقروض ويفشل أي نهضة وتعافٍ للاقتصاد، الأمر الذي سيضطر المسؤولين إلى التشريع لأنفسهم القضم من احتياطي الذهب، كما يفعلون باحتياطي العملات الأجنبية”. وتوقع استعمال كل الاحتياطيات، سواء كانت المحررة أو الإلزامية، تحت ضغط الجوع وفقدان كل الخدمات ومقومات الحياة، من كهرباء وماء وإنترنت وغيرها إلى الملاذ الأخير المتمثل بالذهب.
وأضاف، “المستعدون لدفع ثمن خيار الممانعة يتناقصون يوماً بعد آخر أمام الجوع والفقر الذي لا يميز بين بيئة وأخرى، ومفعول أموال “حزب الله” بالدولار التي يتباهى بها قصيرة الأجل ولن تدوم إلى الأبد”.
كتلة مفقودة!
في المقابل، يعتبر النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، غسان العياش، أن أي قرار ببيع قسم من الذهب سيكون جزءاً من برنامج متكامل لإيفاء الدين لعام كامل، مضيفاً أنه “بعد وصول الأزمة الاقتصادية إلى حدود الانفجار الاجتماعي لم يعد يصح الحديث عن احتياطي الذهب كأمر مقدس، لأنه آن الأوان للاستفادة من قسم منه”.
وأوضح أنه في السابق كان الاعتقاد السائد أن احتياطي الذهب ضمانة الليرة اللبنانية وثبات سعرها، “وحينها كان حجم الذهب متناسباً مع حجم الكتلة النقدية والناتج المحلي القائم، وعندما كان النظام النقدي العالمي قائماً على التغطية الذهبية للعملات”، لافتاً إلى أن بيع قسم منه بعد أن تم التفريط في قسم كبير من الاحتياطات بالعملات الأجنبية، قد يساعد جزئياً في إعادة تكوين الاحتياطي النقدي لمصرف لبنان الذي جرى هدره لتمويل الميزان التجاري.
وكشف عن أن لبنان يحتاج إلى نحو 50 مليار دولار لاستعادة الكتلة المفقودة بالدولار وإعادة رسملة المصارف التي تعرضت رساميلها إلى تآكل بسبب إفراطها في إقراض القطاع العام. أما في شأن ما يتعلق بالمخاوف من حجز الذهب الموجود في أميركا في حال تم رفع دعاوى قضائية على الدولة اللبنانية، فيرى عياش أنها ليست في مكانها، لأن ذلك غير موجود في شروط العقد لحاملي سندات “اليوروبوندز”.
انهيار مرعب
أما رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، فيشير إلى أن اللجوء إلى استخدام احتياطي الذهب، دونه عقبات ومخاطر، ويعمق الأزمة الراهنة، “لأن المعضلة هي أزمة النفقات التي تتجاوز الإيرادات، واللجوء إلى التصرف بالذهب ليس إلا عملية شراء مزيد من الوقت وإعطاء لبنان جرعة من الإجراءات للصمود أشهراً إضافية قبل الانهيار الوخيم، في حين أن المطلوب الإسراع في إنجاز الإصلاحات لتحقيق التوازن بين إيرادات الدولة ونفقاتها بدل الذهاب إلى خيارات ليست صائبة، وتشكل تبديداً لهذه الثروة، خاصة أن هناك طمعاً باحتياطي الذهب وهناك من يسعى لبيعه وفقاً لمصالحه الخاصة”.
وشدد على أن قيمة العملة الوطنية مرتبطة باحتياطي العملات الأجنبية واحتياطي الذهب، وبيع الذهب على المدى القصير قد يثبت سعر صرف الليرة على 8 آلاف ليرة مقابل الدولار، لكن على المدى المتوسط كلما انخفض احتياطي الذهب ارتفع سعر الصرف، وانحدرت الليرة بشكل سريع لأن قيمتها مرهونة بقيمة الاحتياطي الموجود، بالتالي فإن الدخول في لعبة تسييل الذهب أو هدر ما تبقى من الاحتياطي الإلزامي يعني تسريع مخاطر الانهيار بشكل مرعب.