كتبت ليا القزي في “الأخبار”:
تستطيع الحكومة أن تستورد البنزين والمازوت مباشرةً، وتستطيع أن تُجبر شركات الأدوية على ضخّ المخزون الذي تمتلكه في الأسواق وتنتقل نحو الاستيراد المُباشر وحماية صحة الناس وحياتهم. الحلول البديلة موجودة، لكنّ السلطة قرّرت صرف النظر عنها مقابل تكبير سطوة أصحاب الاحتكارات، عبر قرارها الاقتراض من مصرف لبنان لمصلحة شركات المحروقات والأدوية
حين يضرب تسونامي بلداً ما، ويموت بسببه سكّانٌ ويُخلّف أضراراً في الممتلكات الخاصة والمساحات العامة، تتأهّب الدولة لتقوم بواجباتها في إغاثة المُتضرّرين وتحمّل الأعباء. لا يُطلب من السكّان أن يتولّوا هم أعمال الإغاثة. والأكيد أنّه لا يُعهد بها إلى شركات خاصة تُحمّل كلفتها للناس. الدولة مسؤولة عن سكّانها. آلاف الحوادث البيئية والاقتصادية والمالية والصحية سُجّلت حول العالم، هل تَركت أي دولة شعبها ليتدبّر أمره بنفسه، كما تفعل السلطة في لبنان؟ الأسوأ من ترك الناس يموتون تحت الأنقاض، جرّاء انقطاع الدواء والمحروقات وانهيار العملة وفقدان الأجور قيمتها والتضخّم المرتفع، أنّ المسؤولين حين يجتمعون ليُفكّروا بـ«حلّ» للأزمة… يتّخذون تدابير تؤمّن «بيئة سليمة» لعمل شركات الاستيراد الخاصة ــــ أي المُحتكرين الذين يبتزّون «الدولة» لتأمين مصالحهم وإلا يقطعون السلع الأساسية عن الناس ــــ كاستدانة الحكومة من مصرف لبنان لمصلحة شركات استيراد المحروقات.
في حزيران الماضي، وقّع رئيسا الجمهورية ومجلس الوزراء على «قرار استثنائي» بالاقتراض من مصرف لبنان الدولارات «التي تسمح بالاستمرار في دعم البنزين، لكن على سعر 3900 ليرة» للدولار الواحد. ذلك يعني أنّه عوض تأمين «المركزي» لـ 90% من قيمة اعتماد استيراد المحروقات وفق سعر صرف 1507.5 ليرة، تُصبح قيمة الدعم 100%، لكن على أن تدفع الشركات 3900 ليرة مقابل كل دولار، على أن تتحمّل الميزانية العامة أعباء هذه العملية من خلال تسجيل الدولارات كدَين مستحق عليها لمصرف لبنان. الفريق الوحيد المُستفيد من هذه العملية هو شركات الاستيراد، التي ما عليها سوى الإتيان بالليرات إلى مصرف لبنان، ليتولّى تحويل ما يُعادلها بالدولار الأميركي وفق سعر صرف 3900 ليرة، لإتمام عملية الاستيراد. «استنزاف» العملة الصعبة سيستمر لدى «المركزي»، وسيتضخّم الدَّين العام بالعملة الأجنبية على الدولة، وسيتحمّل السكان التكلفة الأكبر مع تضخم فاتورة المحروقات. بالإضافة إلى ذلك، يشترط مصرف لبنان على السلطة السياسية أن يُسجّل هذا القرض كـ«ديونٍ مميزةٍ»، يحظى بأولوية الدفع على بقية القروض وبالدولار الأميركي النقدي.
ألم تكن المصلحة العامة تستدعي موقفاً جريئاً من المسؤولين بالاستيراد المُباشر؟ وما ينطبق على المحروقات، ينطبق أيضاً على استيراد الدواء الذي تحوّل إلى «سلعة شرف» ينالها من يملك المال والنفوذ.
قرّر المسؤولون تثبيت واقع شاذ وتوسيع دائرة نفوذ المُحتكرين تحت عنوان حالة الطوارئ والضرورة. ففي اجتماع يوم الخميس الماضي في قصر بعبدا («الأخبار» عدد 3 تموز)، كان وزير المالية غازي وزني الوحيد الذي أثار عدم قانونية ما يجري. «هذه شركات خاصة لا علاقة لنا بها، والدولة لا تستطيع أن تقترض لمصلحة شركات خاصة»، مُضيفاً إنّ «من واجب الدولة الاستدانة لتأمين الكهرباء، لأنّها خدمة عامة وهي مسؤولة عما تستدينه فقط». ردّ عليه الرئيس ميشال عون بما معناه أنّ حياة الناس بمواضيع حساسة ولا سيما الدواء، لا تحتمل التوقّف عند «فاصلة» في القانون. ولكنّ الغاية التي يسعى إليها الرئيس ــــ وهي تأمين حصول السكّان على الدواء وبقية المواد الأساسية ــــ لن تتحقّق بالخضوع لابتزاز المستوردين المُحتكرين. هؤلاء لن يملّوا من طلب المزيد كلّما أرادوا تحقيق أرباحٍ أكثر أو حماية ما يرونه «مُكتسبات»، طالما أنّهم متأكدون من أنّ الدولة لا تملك بديلاً منهم وتُنفّذ لهم شروطهم.
الدولة ستتكبّد بالدولار كلفة أرباح شركات استيراد المحروقات والأدوية
ترى أستاذة القانون المتخصّصة بالشأن المصرفي، سابين الكيك أنّ هذا القرار الاستثنائي «دعمٌ يُدفع لشركات خاصة، تستفيد أيضاً من الأرباح التي يُتيحها لها الدعم من دون أن يكون للدولة رقابةٌ على عملياتها. وهذا التمويل لا يُستخدم لتسيير مرفق عام كما ينصّ القانون». الدولة تقترض لمصلحة «واحد من أكثر القطاعات الذي تُثار فيه شُبهات هدرٍ وفسادٍ ويستنزفنا جميعاً». وتسأل الكيك «بأيّ مصلحة عامة تقترض الدولة، وهي تُدرك أنّ جزءاً من السلع المستوردة يتمّ تهريبه؟». المُشكلة الأكبر تكمن في تعميق جذور «الاقتصاد المُدولر والاستمرار في تشريع الاستدانة بالدولار. هذا أمرٌ خطير لأنّ الدولة تقوم بتغذية أسباب الأزمة»، وهي الاقتراض بالعملة الأجنبية والشحّ بالدولارات. فالدَّين بالعملة المحلية، مهما بلغ حجمه، لا يُشكّل عبئاً على الحكومات ويُمكن حسن إدارته بما فيه فائدة للمُجتمع والاقتصاد. في وقتٍ أنّ الدولة كان يجب «أن تسلك الطريق المعاكس، أي الاستيراد المُباشر ووضع سياسة إصلاحية شاملة».
إضافةً إلى ذلك، تتوقّف الكيك عند اشتراط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إعطاء هذا الدَّين الجديد أولوية التسديد على بقية القروض، «كيف سنُبرم إذاً اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، ونبدأ المفاوضات مع حمَلة اليوروبوندز (سندات الدين بالعملات الأجنبية)؟». يُفترض بصندوق النقد أن «يكون الدائن الأول، ويقبل بقية الدائنين بذلك لأنّه يُشكّل لهم ضمانة. فماذا سيكون تأثير شرط سلامة على المفاوضات المستقبلية؟». تتوافق هذه الأسئلة مع مُخطط سلامة غير الخفي تطيير أي اتفاقية مع صندوق النقد هرباً من تنفيذ شروطه وتحمُّل القطاع المصرفي جزءاً من كلفة الأزمة. إلا أنّ الكيك تذكر سبباً آخر لهذا الشرط «وهو العرقلة كونه لا يملك الدولارات ليُقرضها للدولة، ويشتري الوقت بانتظار حصول لبنان على الـ 900 مليون دولار من «حقوق السحب الخاصة للدول الأعضاء» من صندوق النقد».
تحديد سعر الصرف بـ 1507.5 ليرات أو 3900 ليرة أو 18 ألف ليرة، وتأمين الدولارات وفقَه للاستيراد لن يُغيّر كثيراً من واقع الحال، وتحديداً بما خصّ كميات المواد المستوردة. تخفيف الأعباء سيتم حصراً بالليرة اللبنانية، لكنّه سيرفع من المديونية بالدولار، المعضلة التي أصلاً تُعانيها الدولة اللبنانية. وفي هذا الإطار، يُشير مُتخصّص في الشأن الاقتصادي إلى أنّ تسجيل دَين على الميزانية العامة لمصلحة القطاع الخاص «ليس حصراً مخالفة من الناحية القانونية، بل أيضاً من ناحية أثر هذا الاقتراض على مصالح الناس والمُستهلكين». فحين تُقرّر الدولة الاقتراض، «يُفترض أن تتولّى الإدارة: الاستيراد والتوزيع، كونها تتحمّل كلفة الدين». الإجراء المُتّخذ حالياً يؤدّي إلى «ترتيب كلفة على المجتمع بكامله، ليس فقط بسبب ارتفاع كلفة المواد الأساسية، ولكن لأنّ الدولة ستتكبّد وبالدولار كلفة أرباح شركات استيراد المحروقات والأدوية. إذاً، سندفع سعر الكلفة وسعر الربح». ماذا تعني زيادة سعر الدواء والمحروقات لمُجتمع مُدمّر؟ «يعني أن أصحاب القرار لا يُمانعون أن يموت السكّان لعدم قدرتهم على دفع ثمن السلعة».
عِوض السماح بزيادة الأسعار لمصلحة تجّار مُحتكرين، والبحث عن حلول تُناسبهم، لا شيء يمنع وزارة الصحة من استيراد أدوية الـ«جينيريك» وإعطائها لمن يملك وصفة طبية، إما مجاناً أو بسعر مقطوع زهيد. والأمر نفسه ينطبق على قطاع المحروقات، فالدولة تستطيع أن تستورد المشتقات النفطية وتوزعها على السكّان. الاستيراد المباشر يعني تحقيق وفر في الفاتورة وتخفيف الضغط على قدرات الناس الشرائية، والأهم تفكيك سلطة الاحتكارات ومنعها من التحكّم بالأسعار. مثلاً، حين تقرّر اعتماد سعر صرف 3900 ليرة للدولار عوض 1507.5 ليرات لدعم استيراد المحروقات، أوقفت الشركات مدّ السوق بالمادة قبل أن تجبر وزارة الطاقة على زيادة 10 آلاف ليرة على التسعيرة، رغم أنّ الوزارة كانت قد زادت أصلاً 15 ألف ليرة ربطاً بتخفيض الدعم. على الرغم من ذلك، يقدّم المسؤولون حججاً لعدم الإقدام على الاستيراد المباشر، كالقول إنّ وزارة الصحة لا تستطيع، قانوناً، الاستيراد مباشرةً بل عبر مناقصات تُجريها وتفوز بها إحدى شركات الاستيراد المُحتكرة. أما بالنسبة إلى البنزين، فيُروّجون لكون الخزانات لدى منشآت النفط لا تسع كل الكميات، بالإضافة إلى شحّ السيولة لدى الدولة، وبالتالي عدم القدرة على تأمين حاجات السوق بكاملها. يتحدّثون عن الشحّ، رغم لجوئهم إلى الاستدانة بهدف تمويل التجارة التي يتولّاها المحتكرون، لكنهم غير مستعدّين للاستدانة بهدف الاستيراد مباشرة وتأمين السلع الحيوية للسكان بأسعار متدنّية. في هذا الإطار، ينبغي التذكير بأنّه منذ الـ 2020 والمجلس الأعلى للدفاع يوصي «بتمديد حالة التعبئة العامة» لمواجهة وباء كورونا. بقرارٍ رسمي، لبنان يعيش في ظلّ حالة التعبئة العامة التي تُجيز «فرض الرقابة على مصادر الطاقة وتنظيم توزيعها… فرض الرقابة على المواد الأولية والإنتاج الصناعي والمواد التموينية وتنظيم استيرادها وتخزينها وتصديرها وتوزيعها». وفي ظل حالة الطوارئ الاقتصادية التي تعيشها البلاد، ما المانع، بحسب خبراء قانونيين واقتصاديين، الذي يحول دون لجوء الدولة الى الاستيراد، وإلى مصادرة سلع رئيسية وتوفيرها للمواطنين بغية الحفاظ على أمنهم وصحتهم؟