كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:
استيقظت إدارة بايدن أخيراً على خطورة ترفعِّها عن مسألة لبنان واعتبارها له ملحقاً صغيراً عديم الأهمية في الاعتبارات الجغرافية – السياسية، إلا أن هذه الاستفاقة أتت ببطء شديد، وبكلفة عالية، وهي تفتقد الزخم والحيويّة والاستراتيجية التي يتطلّبها الوضع الراهن في لبنان. فالمطلوب ليس مجرد الإنقاذ، بل الاستدراك الجدّي والعمل على استئصال المرض الذي سبّبته الطبقة الحاكمة المستبدّة وهو ثقتها العارمة أنها فوق المحاسبة، وأشطر من أن تقع فريسة إدارة أميركية مستقتلة على إحياء الاتفاق النووي JCPOA مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ما لم يتبنَ الرئيس جو بايدن سياسة جدّيّة نحو هذه الزمرة الفاسدة ونحو تسلّط “الحرس الثوري الإيراني” عبر “حزب الله” على لبنان ومصادرة الدولة والقرار السيادي، فإن خطر المبادرة الأميركية المتأخِّرة يكمن في إعطاء الانطباع بأن هذه الفورة الأخيرة في الحماس، وتلك السابقة التي تمثّلت في إيفاد السفيرة الأميركية بمرافقة السفيرة الفرنسية المعتمدتين في لبنان الى الرياض لجذب السعودية الى العمل الثلاثي، ليس سوى عملية ترميم وتعويم للطبقة السياسية.
الفضل في الترميم والتعويم يعود أولاً الى الدبلوماسية الفرنسية على أعلى المستويات، بالذات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي رفع السقف متعهِداً المحاسبة والعقاب والعقوبات ثم تراجع خطوة بخطوة الى الوراء. تسبّب ذلك في نفخ الثقة في الزمرة المستبدّة والزمرة الفاسدة، فأخذ جميع هؤلاء الى الإمعان في إسقاط البلاد في حفرة الانهيار وعمّقوا للشعب نحو الحضيض في غضون فترة قصيرة بلا هوادة.
إدارة بايدن وقفت متفرِّجة في البدء، ثم قرّرت تفويض فرنسا وفشلها مهمّة لبنان كي تغسل أياديها منه وترتاح. وعندما صفعها واقع انهيار الاقتصاد، واحتمال انهيار الجيش اللبناني، وبدء الانهيار الأمني، بدأت بإعادة النظر في استهتارها، إنما بخطوات خجولة وناقصة حتى الآن.
قداسة البابا فرنسيس له الفضل الكبير في يقظة إدارة بايدن لا سيّما لدى استقباله وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن مؤخراً. تحرّك بلينكن وأجرى لقاءات حول لبنان مع نظيريه الفرنسي جان – ايف لودريان والسعودي فيصل بن فرحان آل سعود في 29 حزيران (يونيو) الماضي على هامش مؤتمر قمّة العشرين في ايطاليا.
البطريرك بشارة بطرس الراعي كاد “ينشف ريقه” وهو يخاطب الداخل اللبناني والخارج الأميركي والفرنسي والسعودي وغيره كي يسرعون جميعاً الى اعتماد “الحياد” عنواناً لإنقاذ لبنان من مصير الانهيار والتشرذم والفوضى والاضمحلال. “حزب الله” خوّنه. السياسيون اللبنانيون خذلوه. الأميركيون تجاهلوه. والفرنسيون افترضوا أنهم أكثر ذكاءً وعِلماً بالسياسة. فقط البابا فرنسيس التقط المناشدة واستوعب ضرورة تفعيل دور الفاتيكان على الصعيد الإنساني والسياسي والاستراتيجي على السواء.
للفاتيكان قدرات فائقة في الدبلوماسية الدولية وكذلك لدى الجاليات في العالم، وهو في صدد تفعيلها بما هو في مصلحة جميع اللبنانيين وليس مجرد المسيحيين منهم. انه الوسيلة لانتشال لبنان من حفرة الانهيار ومن مخالب “حزب الله” وبقية الطبقة السياسية المستبدّة الجشِعة وراء السلطة والمال.
تُحسِن إدارة بايدن التفكير المجدي إذا أحسنت الاستماع والتنسيق مع البُنية الدبلوماسية لدى الفاتيكان. لا مانع من أن تضع يدها في يد فرنسا. أما أن تولي الى باريس مقعد القيادة، فإن إدارة بايدن بذلك تكون مستمرّة في التهرّب من مسؤولياتها الأخلاقية والاستراتيجية. فهذا بلد تنتهك فيه الطبقة الحاكمة حقوق إنسان المواطن بنمطية قاتلة وتغض النظر عن جرائم ضد الإنسانية كتلك التي وقعت في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) الماضي – وإدارة بايدن تزعم أنها تتبنّى الدفاع عن حقوق الإنسان. هذا أخلاقياً.
أما استراتيجيّاً، فليس في المصلحة القوميّة الأميركية أن تقدّم لبنان الى المحور الإيراني – الروسي – الصيني، وهو الجار المباشر لإسرائيل ولسوريا موقعه على المتوسط قبالة القارة الأوروبية. وليس ذكاءً منها أن تتظاهر أن “حزب الله” الذي صنّفته الولايات المتحدة في خانة “الإرهاب” لا يمتلك كامل خيوط التلاعب بلبنان وجيرته كما بمشاريعه الإقليمية والدولية.
ماذا في ذهن الدبلوماسية الأميركية إذاً في هذه المرحلة من الثنائية الأميركية – الفرنسية نحو لبنان والتي تسعى وراء إقناع السعودية بتحويلها الى ثلاثية؟ وماذا في ذهن الدبلوماسية الروسية، ووراءها الدبلوماسية الصينية الصامتة، في إطار تحالفهما مع إيران في لبنان؟
التفكير داخل إدارة بايدن يدور في فلك إيجاد سبل التأثير في السياسيين اللبنانيين الفاسدين للضغط عليهم فرداً فرداً لإبلاغهم بحزم أن الأبواب ستكون مغلقة أمام دخولهم الأراضي الأوروبية والخليجيّة والأميركية ما لم يتبنوا الإصلاحات اللازمة. أي أن الرسالة هي: ابقوا في دياركم وعالجوا أمور البلد. فإذا فعلتم، نحن مستعدون للدعم. وإذا لم تفعلوا، ستكونون محتجزين في بلادكم وممنوعين من زيارة أولادكم وممتلكاتهم في بلادنا.
هذه الفكرة الفرنسية الأصل هي ما تبنّته إدارة بايدن، وهي فكرة ناقصة وخطيرة لأنها تضفي الشرعيّة المسبقة على الطبقة الفاسدة والمتحكِّمة والمتسلّطة وتقدّم اليها جزرة تعميق تسلّطها وعصا باهتة لا قيمة لها. انها مفارقة رهيبة.
فأن يُقال للسياسيين والمستبّدين الذين هرّبوا أموالهم الى الخارج ولديهم البيوت الفخمة في فرنسا أو أميركا إن معادلة الترغيب والترهيب تقتصر على منعهم وعائلاتهم من زيارة قصورهم في أوروبا وأميركا، فإن تلك بدعة فرنسية تضيف الإهانة الى الجرح في صميم اللبناني.
المطلوب من الدبلوماسية الأميركية أن تضغط على الدبلوماسية الأوروبية أجمع، وبالذات على سويسرا التي تختبئ وراء نظامها المالي، أن تتبنّى عقوبات ذات أسنان تطاول أموال الطبقة السياسية الفاسدة والمستبدّة. وإلا فكلام العقاب هذا هراء، والفاسدون يفهمون لغة المواربة الفرنسية والأميركية وخلوّها من أدوات التأثير الفاعلة وهي جيوبهم وأموالهم، وليس فرض حظر سفر موقت.
إدارة بايدن تخطئ كثيراً إذا أقنعتها الدبلوماسية الفرنسية بالتخلّي عن “قانون ماغنتسكي”، بل إنها إذا فكّرت في التخلّي عن ذلك القانون، تكون نشرت غطاء السماح فوق رؤوس الفاسدين والمستبدّين، وأنقذتهم من المحاسبة.
بدعة التخلّي عن العقوبات التي سبق لإدارة دونالد ترامب أن تَبنتها كي تستبدلها إدارة بايدن بالتركيز على معاقبة الأفراد بتخويفهم من عدم القدرة على السفر إنما تفتح الباب أمام مساومات قذِرة. إنها فكرة الضغوط الجماعية لدول عدة في آن واحد على مجموعة من الأفراد.
من حيث المبدأ، حسناً. إنما عند التعمّق في فكرة المقايضة بين حسن السلوك للأفراد الذين دمّروا لبنان – من سياسيين الى ميليشيات – مقابل تتويج حكمهم وتشديد قبضتهم على البلد، إنها صفقة البدعة الهزيلة التي تهين أحلام التخلّص من هذه الزمرة. التبرير هو أن هذا ليس وقت الخطوات الكبرى وإنما هو وقت وقف الزحف داخل الانهيار. ولذلك إن المقايضة هي: القليل من الإصلاحات الأساسية من قِبل الزمرة نفسها لتلقّي الأموال للانتشال من الحفرة، والكثير من المكافآت المالية وإضفاء الشرعية على تحكّم الزمرة بمستقبل البلاد.
ساذجاً كان هذا التفكير أو براغماتياً، انه سطحي ومؤذٍ طالما لا ينطوي على آليات المحاسبة القانونية الدولية لهذه الزمرة التي قطعت أرزاق الناس واستولت على أموالهم وأحلامهم وحقوقهم، وطالما سويسرا خارج مجموعة الدول التي تتصوّر المبادرة الفرنسية – الأميركية انها ستكون فاعلة.
السعودية تبدو جاهزة للدخول طرفاً في الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي، لكنها مترددة وتريد ضمانات. وهي محقّة في عدم استعدادها للهرولة، وفي انفتاحها على مساعدة لبنان لإنقاذه من الإنهيار التام. الرياض تعي أن التنازلات الفرنسية أربكت المبادرة الفرنسية، وأن قرارات “حزب الله” في طهران، وأن الدخول في الثلاثية لتعويم الطبقة السياسية وترميم الحكم القائم، خطير.
روسيا غير قلقة. فهي في انتظار وضوح هدف التنسيق الثلاثي لتتفهمه، وهي تنظر الى لبنان من زاوية علاقاتها بإيران حصراً. لبنان سيكون حاضراً فقط عبر الطروحات الإيرانية أثناء اللقاء المتوقّع بين وزيري الخارجية الروسي والإيراني أواخر الشهر الجاري، ومن زاوية “الاستقرار” وقدرات “حزب الله” وحده على ضمانه، من وجهة نظرها.
رأي روسيا هو إذا كان الثلاثي قادراً على تقديم ضمانات الاستقرار في لبنان، فليثبت ذلك بالأفعال. وعندئذ، لمَ لا؟ انما موسكو لا تثق بقدرة الثلاثي على ذلك، وهي عازمة على إعادة هيكلة كامل علاقاتها مع طهران كأولوية قاطِعة. إنها أيضاً تنظر الى كامل العلاقات لجميع اللاعبين في لبنان من منظار مصير المفاوضات النووية في فيينا.
كلمة أخيرة. لماذا قرّرت واشنطن وباريس كسر التقاليد الدبلوماسية وإيفاد السفيرتين المعتمدتين في لبنان، الأميركية دورثي شيا والفرنسية آن غريو الى الرياض للبحث في ملف لبنان؟ حسناً، كلتا السفيرتين تتقنان الملف اللبناني بجدارة، وهذا سبب من الأسباب. الأسباب الأخرى لوجستية. ذلك أن انهماك الوزراء ووكلائهم بملف إيران أدّى بهم الى اتخاذ قرارات براغماتية لوجستية شكّلت دبلوماسية غير مسبوقة، فبدت بدورها وكأنها بدعة في زمن الانهيار.
إنما كل هذا لا ينفي جدوى اليقظة الأميركية، وضرورة الانخراط الأوروبي بكامله، وأهمية عودة الاهتمام السعودي والخليجي بلبنان، ولربما تكمن أعجوبة انتشاله في براغماتية الضغوط الجماعية الجديّة لهذه الدول على كل السياسيين فيذوقوا طعم المرّ فرداً فرداً، ويدب الهلع فيهم أفراداً وجماعةً.
المصدر : النهار العربي