كتب ذو الفقار قبيسي في “اللواء”:
صورة عن أكبر تضخم جامح حصل في تاريخ العالم. لا بغرض التشاؤم ولكن لمجرد الاستفادة من دروس الماضي من خلال بعض تجارب الشعوب، والعمل على تجنّب ما تتسبب به الأزمات النقدية في حياة الشعوب.
كان ذلك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في ألمانيا التي خسرت الحرب أمام الحلفاء. وبعد أن دمّرتها ملايين القنابل فرضت عليها الدول المنتصرة تعويضات بالمليارات من العملة الأجنبية التي كان على حكومة دولتها المسماة في تلك الفترة العصيبة، «جمهورية فايمار» أن تدفعها أقساطا ثقيلة على مدى عشرات السنين الى حد ان الاقتصادي الانكليزي الشهير «جون ماينارد كينز» قال أن قيمة كل ما سوف ينتجه الشعب الألماني المهزوم والمغلوب على أمره على مدار السنوات المقبلة لن يكفي لتسديد تلك الأقساط الهائلة القاسية، فما الذي سيبقى له عندها كي يضمن نفسه الحد الأدنى من الكفاف الاقتصادي أو ما يسمّى Minimum Level Of Subsistence.
ورغم الاعتراض الذي نشره هذا الاقتصادي القدير في كتاب عن «ثمن السلام» أصرّت الدول المنتصرة الحليفة على فرض التعويضات المقررة ووقّعت ألمانيا في ما كتب عليها من الفقر والذل والهوان في مسلسل طويل من الاستحقاقات التي عجزت عن دفعها خلال أكبر أزمة اقتصادية ونقدية في تاريخها بين العامين ١٩٢٣ و١٩٢٤ انهار خلالها سعر المارك الألماني بشكل مخيف بل مرعب.
فبعد أن كان سعر الدولار 2,40 مارك ألماني أخذ يتصاعد تدريجيا حتى بلغ 2 ترليون مارك لكل دولار واحد!! ودخلت ألمانيا عندها لائحة دول العالم في حجم التضخم النقدي الجامح دخل في سلسلة طويلة من الارتفاع المتواصل الى ١٠٠٠ مارك ثم الى ١٠٠٠٠ مارك ثم الى ١٠٠٠٠٠ مارك و١٠٠٠٠٠٠مارك و1000,000 ثم الى 1000,1000,1000 و١000,1000,1000,1000 وأخيرا صدّق أو لا تصدّق الى ٢ ترليون مارك ألماني لكل دولار أميركي واحد!! وانضمت ألمانيا عندها الى لائحة طليعة دول العالم في حجم التضخم النقدي الجامح الذي اشتهر في الأدبيات الاقتصادية باسم Higher Inflation الذي شهدت العديد من الدول الحديثة ما لامسه أو أقل منه بنسب معينة من البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وزامبيا وموزمبيق.
أما كيف كانت تسير الأعمال اليومية في ألمانيا في تلك الفترة العصيبة، فقد أخذت الأمور تتطوّر تدريجيا من السيئ الى الأسوأ الى الأكثر سوءا، بدءا من تغيّر مواعيد دفع الأجور عن كل شهر الى نصف شهر وذلك تجنّبا للانخفاض الذي كان يصيب المارك مقابل الدولار بشكل متسارع. ثم لما تضاعفت معدلات الانخفاض خلال فترات أقصر أصبح دفع الرواتب عن كل أسبوع ثم عن كل يوم وأحيانا عن كل ساعة ولسبب يكاد لا يصدق هو انه بعد أن ينال العامل أجره عن ساعة واحدة ويسارع الى شراء حاجياته يكون سعر المارك قد هبط بنسبة معينة خلال تلك الساعة!! وبعد أن بدأ الناس يستخدمون حقائب كبيرة ملأى بالماركات لشراء وجبة طعام أم قميص، واضطرت الحكومة تسهيلا للدفع الى طباعة الفئات من ملايين أو عشرات ملايين الماركات في ورقة نقد واحدة وللتوفير في أكلاف الطباعة العالية في اقتصاد شهد معدلات قياسية في معدلات الفقر والبطالة لامست في بعض المناطق حد الجوع، الأمر الذي أدّى الى نمو حركات التطرف اليسارية واليمينية واشتداد منافسة رئيسية بين طرفين أساسيين: الشيوعيين والنازيين، انتهت بفوز الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر في الانتخابات التشريعية التي أوصلته الى سدّة الحكم وصولا الى الحرب العالمية الثانية التي شهدت الهزيمة الألمانية الثانية ودخول أوروبا والعالم الى عصر سياسي واقتصادي وعسكري جديد ما زالت آثاره وتداعياته فاعلة حتى اليوم.