كتبت سلوى بعلبكي في “النهار”:
ما بات اكيداً حتى اليوم أن كل الازمات والمصائب التي “بلت يديها” في لبنان نجحت نجاحاً باهراً في تعميق الهوة التي ينحدر الى قعرها اللبنانيون في انتظار الارتطام الكبير. جديد هذه الأزمات وطبعا “ليس آخرها”، امتناع المؤسسات والمحال التجارية عن قبول بطاقات الائتمان والاعتماد المصرفية بسبب أزمة السيولة التي تعانيها هذه المؤسسات وبينها المصارف التي لطالما أغرت عملاءها وشجعتهم على استخدامها (البطاقات) حيناً بإكتساب نقاط وأحيانا بـ “اميال” للسفر وهدايا وفوائد للحد من التعامل بالعملة الورقية ولتحقيق أرباح وعمولات.
سطع نجم بطاقات المصرفية في السنوات الاخيرة حيث باتت ثقافة استخدامها شاملة في المؤسسات والشركات اللبنانية. ولكن هذا الوضع انقلب رأساً على عقب، إذ لم يعد اللبنانيون ينعمون بهذه الخدمة التي تغنيهم عن حمل “الكاش”، واصبح من يلوح بهذه البطاقات “منبوذا” من بعض المحال التجارية والسياحية التي باتت تظهر العداء العلني لها. حتى ان الغالبية منها إرتأت أن ترتاح من “وجع الراس”، فاستغنت كلياً عن ماكينة الدفع الالكتروني الـPOS لتحدد “الكاش” الوسيلة الاوحد لتعاملها مع الزبائن.
ولكن “اذا عرف السبب بطل العجب”. فمذ تعمقت الازمة أكثر في الاشهر الاخيرة، اصبح التعامل ببطاقات الائتمان أو الاعتماد من سابع المستحيلات. حجة التاجر ان المورّد لا يقبل ثمن البضاعة إلا “كاش”، فيما يلقي الاخير اللوم على المصارف التي ترفض تزويده بالسيولة اللازمة ما لم يودع يوميا “غلته” فيها. اما المصارف فتتذرع بأن مصرف لبنان يقنن تزويدها بالـ”كاش” بسبب اعتماده أخيرا استراتيجية تجفيف السيولة لتخفيض نسب التضخم وكبح جماح انهيار الليرة.
من البديهي أن تقضي هذه السلسلة من المعوقات على ثقافة استخدام البطاقات المصرفية التي لم تعد تستخدم الا لسحب الرواتب الشهرية أو كميات متواضعة من المبالغ عبر الصرافات الآلية لا تكفي لسد حاجات المواطنين اليومية خصوصا في ظل هبوط سعر الليرة الى مستويات قياسية. ويؤكد المدير العام لشركة Zwipe في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رمزي الصبوري أن عدد ماكينات الـ POS تراجع بنسبة 50% حتى في المحال الكبيرة “فرانشايز”، وهذه النسبة تشمل ايضاً عدد مستخدمي البطاقات المصرفية، لافتاً الى أن نسبة استخدام الـ POS انخفضت الى نحو 5% بعدما كانت 30% في مقابل زيادة استخدام ماكينات الصراف الآلي (ATM) الى 95% بعدما كانت 70%، و”هذا أمر مؤسف حقا”. وبعدما وصل عدد بطاقات الدفع بكل أنواعها (بطاقات الدفع الفوري- بطاقات الائتمان- بطاقات الدفع لأجل- بطاقات مدفوعة مسبقا) في نهاية العام 2019 الى 3,036,756 بطاقة، اعتبر الصبوري أن هذه الارقام لم تعد مهمة خصوصاً في ظل غياب العمليات التجارية التي تجرى بواسطتها.
واذا كان غالبية المؤسسات ترفض قبول البطاقات المصرفية، فإن البعض الآخر يحدد الاسعار تبعا لطريقة الدفع، فاذا كان الدفع بـ”الكاش” يكون السعر أقل من الدفع ببطاقات الائتمان. وهذا الامر يبدو مبرراً بالنسبة لأصحاب هذه المؤسسات الذين يعانون الامرين في سحب أموالهم نقدا من المصارف، يضاف الى ذلك عدم قدرتهم على دفع النسب التي تفرضها المصارف على كل العمليات التي يقومون بها. وتكمن المهزلة في الدفع بالدولار اذ ينخفض السعر الى نحو الثلث اذا كان الدفع كاش في حين يرتفع بنسب تختلف من يوم الى اخر اذا اراد الشاري استعمال بطاقته.
يؤكد بعض التجار ومنهم رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس لـ”النهار” أن المصارف تفرض نحو 10% على المؤسسات التجارية التي تستخدم ماكينة الدفع الالكتروني الـPOS، إلا أن المسؤول في “أريبا” جاك ضرغام الذي يضع عامل الثقة بالمصارف في المقدمة، يوضح أن النسب تتفاوت بين 1.7% و2.7% وتصل كحد اقصى الى 4.75%، وهي نسب يعتبرها مرتفعة بالنسبة للمؤسسات الصغيرة التي تعاني في هذه المرحلة الصعبة، بما حدا بها الى التوقف عن قبول بطاقات الائتمان. وفي المقابل يرى أن من حق المصارف أن تفرض هذه النسب لقاء الخدمات التي تقمها والتكاليف التي تتكبدها من أوراق وصيانة الماكينات وغيرها.
وفق مصادر مصرفية فإن النسب التي تفرض على استخدام البطاقات المصرفية ليست جديدة، وتاليا فإن المشكلة لا تكمن هنا بل في حاجة المحال التجارية وغيرها من المؤسسات ومنها المصرفية الى “الكاش”.
أزمة الـ”كاش” استفحلت أخيرا في المصارف التي تلجأ الى السوق لتأمينه بنسب زيادة تصل في بعض الاحيان الى 17%، بما يكبدها خسائر كبيرة. وتجدد مصادر مصرفية تأكيدها لـ “النهار” عجزها عن تأمين السيولة الكافية بالليرة اللبنانية بعد سياسة مصرف لبنان الأخيرة والقاضية بتقنين امدادها بالسيولة اللازمة بالليرة إلى أقصى حد واقتصارها على رواتب القطاع العام، وخصوصا مع بدء بتطبيق التعميم 158.
ادفع نقدا… بسعر أقل
يلاحظ أن بعض المحال تفرض على الزيون نسبة 5% أو 10% في حال أراد الدفع بالبطاقة، ولكن هذا الأمر غير قانوني برأي مارك ضرغام، إذ “لا يحق لصاحب المؤسسة فرض اي نسبة على الزبون، فهو إما أن يقبل التعامل بالبطاقة أو لا يقبل، من دون الدخول في جدل مع الزبون على النسبة”، ويضع هذا التصرف في سياق تحقيق بعض التجار أرباحا اضافية من الزبون.
ويصر ضرغام على أن الازمة هي أزمة عدم ثقة بالمصارف، فأصحاب المؤسسات يفضلون التعامل بالـ”كاش” كي يتمكنوا سريعا من استبدال العملة المحلية بالدولار، خصوصا وان حصوله على امواله من المصارف يستغرق اياما عدة، بما يفقده فرصة التحويل الى الدولار بسعر أقل فيما سعر الصرف في السوق السوداء يتغير يوميا بنسب كبيرة بما يؤدي الى زيادة خسارته.
وإذا كانت المؤسسات الصغيرة قد اعادت الـ POS الى الشركات التي أمنتها لها، فإن ثمة محال كبيرة ومطاعم يناسبها الابقاء عليها خصوصا في حال كان زبائنها من المغتربين او السياح ولديهم بطاقات ائتمان اجنبية بالدولار، بما يخولها قبض العملة الصعبة “فرش”.
من جهته، لا يستغرب شماس أن تستغني المؤسسات التجارية عن استخدام الـ POS لأن في بعض الاحيان تكون النسب التي تفرضها المصارف أكثر من هامش الربح حيث تصل الى 10%. والتجار خسروا ما فيه كفاية من ارتفاع سعر الدولار وتاليا هم غير مستعدين لزيادة خسائرهم.
التجار وفق ما يقول شماس يحاولون قدر الامكان الحد من خسائرهم، خصوصا وأن رقم اعمالهم انخفض 80%، لافتا الى أنه قبل انهيار العملة انتشر استخدام الـPos في المحال كافة حتى عند المؤسسات الصغيرة، ولكن اليوم فرض نسبة الـ 10% على كل عملية تجارية أمر لا يمكن للتاجر أن يتحمله، عدا عن أنه عندما نقبض بالليرة نتحمل خطورة تبدل سعر الصرف”.
الامور متجهة الى الأسوأ. يقول شماس “فالتاجر يفضل عدم البيع على أن يتحمل الخسارة، لذا تراه يرفض التعامل ببطاقات الائتمان، وترك الزبون يتدبر امره بتأمين “الكاش”.
وإذ يعتبر أن “الكاش” أصبح نادرا خصوصا في ظل سياسة مصرف لبنان تجفيف السيولة بالليرة التي تعتبر كتلة ساخنة يتم من خلالها شراء الدولار، قال “ربما الغاية من وراء هذه الاجراءات تشجيع الناس على اخراج السيولة المخبأة في منازلهم”.
الموردون يتعاملون بالنقدي؟
وتتجلى خطورة أزمة عدم قبول البطاقات أكثر في السوبر ماركت حيث حاجة الناس الى شراء المواد الغذائية. نقيب أصحاب السوبر ماركت نبيل فهد يقول: “عندما نقبض من الزبائن بواسطة بطاقات الائتمان، لا يمكننا كأصحاب السوبرماركت أن نقبض اموالنا نقداً من المصارف. حتى ان هذه الاخيرة لا تقبل أن نستخدم هذه الاموال لدفع رواتب موظفينا على اعتبار أنهم يسحبونها نقداً، وتاليا تصبح الاموال التي نحصل عليها بواسطة بطاقات الائتمان محتجزة في المصارف، لا يمكننا استخدامها الا للشيكات. أضف الى ذلك، إن “غالبية الموردين لا يقبلون التعامل بالشيكات، ويصرون على قبض ثمن البضائع نقداً، فيما عدد قليل منهم يقبلون بقبض قسم من الفاتورة (20% أو 25%) بواسطة الشيك و80% أو 85% “كاش”.
وقبول البطاقات يقتصر حاليا على السوبرماركت الكبيرة، أما الصغيرة فليس لديها السيولة الكافية لشراء البضائع، وفق فهد الذي يشير الى أن سعر “الكاش” بالليرة اقل بـ 10% من الشيك.
ولا يعتبر فهد ان النسبة التي تفرضها المصارف على استخدام البطاقات هي المشكلة (وفق ما يقول شماس)، إذ أن “هذه النسبة ليست جديدة”، حاصرا المشكلة فقط بـ”عدم قدرتنا على سحب الكاش من المصارف”.
ولكن هذا الوضع، أثر سلباً على مبيعات “السوبرماركت” ليضاف الى الخسائر التي تتكبدها جراء ارتفاع سعر الصرف الذي وصل الى مستويات مرتفعة بعد اعتذار الرئيس سعد الحريري عن عدم تأليف الحكومة، بما أدى الى توقف عدد كبير من الموردين والشركات عن تسليم البضائع من الخميس الماضي، وفق ما يقول فهد.
في المحصلة، فإن توقف استخدام البطاقات لا يسيء الى سمعة المصارف فحسب، بل مؤذ لها في نقطتين: الاولى ان القطاع المصرفي اللبناني ينقطع تدريجيا عن التواصل والتعامل مع النظام المالي العالمي، وهو مهدد اذا ما استمرت هذا الحال بالعزلة المصرفية، والنقطة الثانية أن الاقتصاد الذي يعتمد كليا كما هو حاصل حاليا على “الكاش” مهدد بزيادة التضخم وارتفاعه الى نسب غير مسبوقة، لا توقفها الا العودة الى العمل من خلال النظام المصرفي عبر بطاقات الاعتماد والدفع الالكتروني أو الحوالات والشيكات.