مثلت العملات الافتراضية “البتكوين وأخواتها” لحظة تاريخية في الأداء الاقتصادي العالمي، رغم محدودية تعاملاتها، وحصر تلك التعاملات فيما يمكن أن نسميه النخبة الاقتصادية، ذات الملاءة المالية الكبيرة.
وتأتي تاريخية اللحظة في كونها أخرجت عملية إصدار النقود من وظائف الدولة، وجردتها من أهم وظائفها وسماتها السيادية وهي إصدار النقود، بحيث جعلت العملات الافتراضية عملية الإصدار في يد المعدنيين، وهم أفراد لديهم مهارات تكنولوجيا عالية.
والأمر الآخر، الذي يتعلق بتاريخية لحظة إصدار العملات الافتراضية، أن الآمال في إزالة الدولار من عرش قيادة النظام النقدي العالمي ارتفعت بشكل كبير، فمنذ عام 1948 أصبح الدولار العملة الأولى عالميا في تسوية المعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم، واعتمدت عليه احتياطيات النقد الأجنبي في كافة البنوك المركزية.
وبقدر ما مثلته العملات الافتراضية من تهديد للدول بشكل عام، ولأميركا بشكل خاص، بقدر ما اكتنفها من مخاطر للاقتصاد العالمي، تتمثل في سهولة كبيرة لتبييض الأموال القذرة، والأمر الآخر زيادة استهلاكها للطاقة في عمليات التعدين، وهي مازالت في إطار محدود من حجمها، فما بالنا لو أصبحت مستخدمة في التعاملات اليومية على مستوى العالم بشكل كامل؟
ومن هنا تحاول العديد من الدول السيطرة على ظاهرة العملات الافتراضية، بل وتمنع، أو تجرم التعامل بها، وتسعى لمواجهة العملات الافتراضية، بسرعة إصدار عملات رقمية خاصة بها، تمثل عملتها المحلية، للتأكيد على سياداتها في أمر مهم وهو إصدار النقود، والأمر الثاني هو مواجهة عملية الاحتيال والعمليات القذرة لتبيض الأموال، وحسب أخر الأرقام المنشورة، فإن هناك حوالي 60 دولة عزمت على إصدار عملات رقمية خاصة بها.
وتظهر قاعدة بيانات البنك الدولي، عام 2020، أن الدولار لا يزال يحتل المرتبة الأولى في تكوين احتياطيات الدول من النقد الأجنبي، رغم حالة الصراع بين أميركا والعديد من الدول ذات الرصيد الأكبر من الاحتياطيات.
ويأتي على رأس هذه الدول الصين صاحبة أكبر رصيد من احتياطي للنقد الأجنبي بنحو 3.35 تريليونات دولار، اليابان 1.39 تريليون، سويسرا 1.08 تريليون، منطقة اليورو 1.07 تريليون، روسيا 596 مليارا، الهند 590 مليارا.
أما تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في تموز 2020، فيؤكد على أن إجمالي الاحتياطيات الدولية بلغ 11.73 تريليون دولار بالربع الأول من 2020، وأن حصة الدولار من هذه الاحتياطيات كانت حوالي 61.9%، في حين الين الياباني كانت حصته بحدود 5.6%، واليوان الصيني كان صاحب الحصة الأقل بنسبة 1.9% من إجمالي الاحتياطيات العالمية للدول.
وتعكس هذه البيانات مدى الثقة التي يحظى بها الدولار لدى البنوك المركزية العالمية، وكذلك دوره في الاقتصاد العالمي رغم ما تعرض له من تراجع في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
السيطرة الأميركية
رغم أن العملات الافتراضية بدأت كتكنولوجيا وممارسة خارج الولايات المتحدة، فإنها اكتسبت الزخم الكبير بفضل الشركات والأفراد والمؤسسات الأميركية، فوجدنا كبرى الشركات الأميركية تقبل هذه العملات في بيع منتجاتها، مثل شركات “تسلا” (Tesla)، “إنتل” (Intel)، “ميكروسوفت” (Microsoft)، وغيرها. كما كان لبعض الأفراد دور كبير في الترويج للعملات الافتراضية، مثل إيلون ماسك، وقد أعلنت جامعات كبرى رصد استثمارات في هذه العملات، ومنها جامعة هارفارد وميشيغان.
وهو ما يعني أن الدور الأكبر في هذه السوق بيد أميركا، وإن صدور قانون أو قرار معني بهذه العملات من شأنه أن يرفع التعامل بها ويزيد من قيمتها، ويمنحها القبول. والعكس صحيح، فصدور قرار يحظر عملها، أو يقيد القبول بها، من شأنه أن يخسف بقيمتها، ويفقدها الكثير من الاستثمارات.
مستقبل الدولار الرقمي
ومع انتعاش العملات الافتراضية في ظل رعاية أميركية، فإن إدارة الرئيس جو بايدن، والتي تستعيد مفهوم “أميركا قوية” ستعمل على استمرار هذه الميزة التنافسية التي تسمح لها بقيادة النظام النقدي العالمي.
ولذلك وجدنا جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي يكشف مؤخرا عن إصدار عملة رقمية سيادية، ويقول إن الأمر يخضع للدراسة منذ شهور مع مجموعة من الجامعات ومراكز البحوث الأميركية.
ونحسب أن الدراسات، التي تجرى على أمر إصدار الدولار الرقمي، لا تخص الأبعاد الاقتصادية، لكون أميركا ترى أن الخطوة تثبت مكانتها في السيطرة على المنظومة النقدية في العالم، ولكن لعل هذه الدراسات قائمة على إحكام المنظومة الإلكترونية، وتفادي الثغرات التكنولوجية التي مُنيت بها العملات الافتراضية، والتأكد من قدرة مجلس الاحتياطي الفدرالي على إدارة المنظومة الجديدة.
وبلا شك فإنه في حالة إصدار الدولار الرقمي، سيكون لذلك أثره السيئ على العملات الافتراضية، والتي تعاني من تراجع في قيمتها خلال الفترة الماضية، بسبب إعلان عدد لا بأس به من الدول إصدار عملات رقمية، وعلى رأس هذه الدول أميركا والصين، فأشهر العملات الافتراضية “البتكوين” كانت قد وصلت إلى نحو 60 ألف دولار للوحدة، لكن تراجعت قيمتها الآن بقرابة 50%، وتراجعت تحت سقف 30 ألف دولار.
وسيضمن الدولار الرقمي وضعا قانونيا أفضل، في سوق التعاملات القائمة به، وسيسحب البساط بمساحات كبيرة من العملات الافتراضية، لكونه يعتمد على مرجعية قانونية، وتقل بنسبة كبيرة في التعاملات المبنية عليه عمليات النصب والغش والاستحواذات غير القانونية، والتي قد تتيحها القدرات التكنولوجيا في حالة العملات الافتراضية.
وسيؤدي صدور الدولار الرقمي إلى وجود سيطرة كاملة على التعاملات المالية والتسويات التجارية من خلاله، لكون قاعدة بياناته تحت رقابة مجلس الاحتياطي الفدرالي، كما ستكون هناك مراقبة للمعاملات التي تهدف إلى تبيض الأموال، وتحديد مسارات واتجاهات كافة التعاملات المالية التي تتم من خلال الدولار الرقمي، بعكس العملات الافتراضية التي تكون فقط لدى بعض الفنيين المعنيين بالتعامل على تلك العملات.
وسترحب العديد من الدول بإصدار الدولار الرقمي، لكونه صادرا من جهة معلومة، ومن دولة ما زالت تمثل أكبر اقتصاد في العالم. كما أن الدولار الرقمي سيعيد الأمور إلى نصابها في قضية ربط إصدار النقود بسيادة الدولة.
وتبقى المنافسة بين الدولار الرقمي المنتظر، مع باقي العملات الرقمية، في إطار المنافسة التقليدية بين أميركا ودول أخرى مثل الصين واليابان، وإن كانت المنافسة ستظل محكومة بكون أميركا المنتج الأكبر للتكنولوجيا، والمسيطر بنسبة كبيرة على المقدرات الاقتصادية العالمية.
وثمة أمر مهم يتعلق بمستقبل الدولار الورقي، فمن الصعب في الأجلين القصير والمتوسط أن يتلاشى وجود الدولار الورقي، بسبب ضعف البنية التكنولوجيا لدى العديد من الدول، بل والأفراد. فكما هو الحال في العملات الافتراضية، كونها تخص عددا شديد المحدودية من المتعاملين بالسوق العالمية، فإن الدولار الرقمي سيكون كذلك في بدايته، ولفترة ليست قصيرة، للأسباب التي ذكرناها.
في الختام، سيكون إصدار الدولار الرقمي تأكيدا على استمرار سيادة العولمة المالية والاقتصادية، برعاية أميركا. وسيبقى الحديث عن نظام نقدي عالمي جديد مجرد آمال بعيدة عن أرض الواقع، بسبب السيطرة الأميركية، والتي ستمارس دورها المستمر على مدار أكثر من 7 عقود من السيطرة على السياستين النقدية والمالية على مستوى العالم.