كتبت البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ في “الجمهورية “:
تتمايل الليرة اللبنانيّة على إيقاعات مضطربة، وقد وصلنا إلى هذه الرقصة المتهاوية إثر خلفيّة أزمة اقتصاديّة هزّت كيانها، فلم تعد قادرة على تمالك نفسها منذ ما يقرب عاماً ونصف العام، خصوصًا بعد تعطّل تشكيل حكومات جديدة. لاحظنا أنّه بعد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بتأليف الحكومة، تحسّن سعر الصرف لدواعٍ بسيكولوجيّة كما كان متوقّعًا… فهذا الأمر طبيعيّ جدًّا في بلدٍ عرفت فيه الليرة كيف ترقص مترنّحة محافظة على توازنها، متمايلة مع وقع القنابل والتغييرات الجيوسياسيّة في المنطقة في حقبة الحرب اللبنانيّة.
لا تتوقّف العملة الوطنيّة عن أدائها الراقص المتعثّر، وتسجّل أرقامًا قياسيّة صعودًا وهبوطًا في سعر الصرف مقابل الدولار الأميركيّ الّذي يدور هذه الأيّام في فلك الـ 20 ألفاً بعد أن تجاوز عتبة الـ 24 ألفاً، في ظلّ سعر رسميّ- وهميّ ما زال جامدًا عند الرقم 1507,5 في سجلّات مصرف لبنان، وبعض المنصّات الإلكترونيّة العالميّة المغيّبة عن الواقع. وفي الساحة الاقتصاديّة نجد من يُطالب مصرف لبنان بالتدخّل لضبط إيقاع الليرة، وغيرهم من يرى أنّ أداء العملة الوطنيّة يضبطه السوق الحرّ.
إنّ مسألة تخمين قيمة العملة ودور المضاربات في استقرار سعر الصرف ليست جديدة. إذ أقلق أداء الأسواق الماليّة في ثلاثينيّات القرن الماضي اقتصاديّين أمثال «كينز» و»كالدور». واشتعل النقاش مجدّدًا في الفترة الّتي سبقت التخلّي عن نظام «بريتون وودز» الّذي أسس قواعد للعلاقات التجاريّة والماليّة بين الدول الصناعيّة الكبرى بعد الحرب العالميّة الثانية، لتكون مبنيّة على أساس تحديد سعر العملات مقابل كلّ من الدولار والذهب، ووفقًا لهذا النظام أصبحت أسعار الصرف مستقرّة وقابلة للتعديل في الوقت نفسه، بحسب قواعد العرض والطلب.
نشر بعد ذلك «فريدمان»، على وجه الخصوص، حججًا مقنعة إلى حدٍّ بعيد، في ما يتعلّق بخاصيّة المضاربة الّتي تضمن الثبات بالضرورة: هل «ينجو» المضارب فقط بدقّة تخميناته؟ فالمضارب يساعد بواسطة مساهمته، الّتي هي نفعيّة ومفيدة في الوقت عينه، على تسريع تعديل أسعار الصرف وفقًا لمعادلة العرض والطلب، لتصل إلى قيمتها الحقيقيّة المتوازنة من جديد. لذلك، يكون تدخّل الحكومة في سوق صرف العملات الأجنبيّة غير ضروريّ، لا بل ضارًّا.
ومن ناحية أُخرى، فإنّ دراسات «فاما» في ما يخصّ كفاية الأسواق الماليّة تجعل من هذا المنطق قاعدةً عامّة. في كِلا الحالتين، يضمن تعقّل التخمينات وحده كفاية «اللعب الحرّ» في سوق العملات. علمًا أنّ مظاهر المضاربات البحتة قد تحرّك أسعار الصرف بعيدًا من قيمتها الفعليّة، أي القيمة الّتي تضعها المحدّدات الاقتصاديّة للمتغيّر.
يُطلق مصطلح «الفقاعة» على الانحراف عن القيمة الفعليّة، وفيها يتوافق تبدّلها تمامًا مع تعقّل التخمينات. إنّ بعض الأصول الماليّة فريدة من نوعها، بحيث أنّه يمكن التحقّق من صحّة توقّعات قيمها، فأسعار الصرف الحاليّة تعتمد على التخمينات. على سبيل المثال: إذا أتّفق الجميع على أنّ الدولار الأميركيّ سيرتفع لسببٍ ما لا علاقة له بظروف الولايات المتّحدة الأميركيّة الاقتصاديّة، سنجد أنّ ثمّة طلباً على الدولار الأميركيّ، وبالتالي سترتفع قيمته في سوق العملات. وبالتالي، نُساهم بدورنا في ظواهر «تنبؤيّة» خلّاقة تغلب فيها الحالة النفسيّة على المنطق في تحرّكات السوق.
وبحسب قواعد البورصة، إذا نشأت مثل هذه الظواهر في سوق الصرف، فمن غير المجدي محاولة فهم محدّدات السوق الاقتصاديّة. هذا يعني أيضًا أنّ أسعار الصرف، الّتي تُعتبر أسعارًا أساسيّة في الأنظمة الاقتصاديّة المترابطة، يمكن أن تتبنّى أيّ ديناميكيّة من دون أيّ صلة بالهيكليّات الاقتصاديّة للبلدان المعنيّة. لأنّ تعقّل التخمينات غير كافٍ لضمان أداء السوق الأمثل، حينها يمكن تبرير تدخّل السلطات النقديّة في سوق الصرف.
يمكننا الآن محاولة وضع هذه النتائج في منظورها الصحيح من أجل فهم أفضل لتطوّر سعر صرف الدولار الأميركيّ في لبنان، وتخمين قيمة هذه العملة في الثمانينيّات مثلًا. ففي المقام الأوّل، يُفسَّر عدم استقرار الدولار الأميركيّ بعدم استقرار أسعار الفائدة الأميركيّة، الّتي نتجت في حدّ ذاتها من تمازج السياسات النقديّة والماليّة المُقيِّدة منذ العام 1979، لا بسبب عوامل الحرب اللبنانيّة الداخليّة.
بعدها، وعلى مدار أكثر من عشرين عاما حتّى بداية الأزمة الاقتصاديّة في تشرين الأوّل 2019، بقي سعر الصرف مقابل الدولار الأميركيّ ثابتًا. ثمّ أدّى الانهيار القياسيّ لقيمة الليرة اللبنانيّة، بالإضافة إلى ندرة المشتقّات النفطيّة، والمستلزمات الطبيّة والأدويّة، وفضلًا عن التضخّم الهائل في أسعار المواد الغذائيّة، إلى فقدان القدرة الشرائيّة لدى المواطن اللبنانيّ، من دون أن ننسى تراجع احتياطات النقد الأجنبيّ لدى مصرف لبنان.
هذا كلّه قاد إلى ارتفاع معدّل التضخّم في لبنان إلى 84,3% في العام 2020، ومن المتوقّع أن يصل إلى 100% هذا العام، فيما وصل معدّل البطالة إلى مستوى 36,9% ومن المتوقّع أن يصل إلى حدّ 41,4% نهاية العام 2021. كما ارتفع معدّل الفقر في العام 2020 ليصل إلى 55% بحسب تقرير لجنة الأمم المتّحدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لغرب آسيا (الإسكوا).
يجد عدد من المراقبين الّذين يتابعون تغيّر سعر صرف الليرة اللبنانيّة منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة والماليّة، أنّ تقلّبات العملة الوطنيّة لا تخضع للعوامل الاعتياديّة بين العرض والطلب في السوق السوداء. وللتذكير، فإن كان مصرف لبنان ينشر كلّ يوم سعر الصرف المفروض على سماسرة البورصة المعتمدين (بواقع 3900 ليرة لبنانيّة للدولار الأميركيّ) منذ أشهر، فإنّ سعر الصرف المعوَّم الّذي يعتمده السماسرة غير القانونيّين هو «ضابط إيقاع الأوحد» لرقصة الفالس الّتي يراقبها التجّار في حيرةٍ وعجب، ويسارعون إلى تكييف أسعار منتوجاتهم بحسب خطواتها المتصاعدة.
تقوم رقصة الفالس على التقدّم والتراجع في تناسقٍ وانسجام بين راقصَين، لكنّ المشهد اللبنانيّ الراقص بين أسعار الصرف وأسعار السِلع عرف فراقًا، فتفاوتت أسعار المنتجات وشوّهت تناغم الرقصة، فحافظت فقط على تقدّمها من دون أن تتراجع مع شريكتها.
لا جدوى اليوم من محاولة شرح التقلّبات الأخيرة في سعر الصرف بعد أن تجرّعت الليرة الكأس المرّ الّذي يخفّف من ألمها، وهي تهذي على وقع ألحان جنائزيّة، لم تعد تعي لذاتها وانفصمت عن واقع متغيّرات الأنظمة الاقتصاديّة الكلّيّة الأساسيّة: السعر، ومعدّلات العرض، والفائدة، وتباين الإنتاجيّة، والدين العامّ، وشروط التبادل التجاريّ، إلخ…
لكن في الواقع، وعند الاحتضار، يغيب المنطق وتطغى العوامل السيكولوجيّة في معادلة سعر الصرف على بقية الأمور. ترتبط هذه العوامل بعدم استقرار المناخ السياسيّ والأمنيّ والمحلّيّ والإقليميّ الّذي يعيش فيه لبنان. في هذا السياق، ساهم تكليف الرئيس نجيب ميقاتي في طمأنة الأسواق، تمامًا كما كانت الحال عندما كُلِّف الرئيس سعد الحريري في تشرين الأوّل 2020، علمًا أنّ سعر الصرف انخفض وقتها ليقارب 7,400 ل.ل، ليعاود بعدها الصعود ليصل إلى أكثر من ثلاثة أضعاف… هذا يعني أنّ انخفاض سعر الصرف لأمر ظرفيّ بحت وليس المقصود له أن يستمرّ، خصوصًا إذا كانت لعبة التكليف من دون تأليف تهدف فعلًا إلى قتل الليرة في مخدعها، مهما علت الوعود بلجم الدولار وإنقاذ البلد من الانهيار الماليّ المحتّم.
يكشف هذا الأمر عن تأثير «استراتيجيّات المضاربة» المذكورة أعلاه عند بعض المضاربين، بالنظر إلى الغموض السائد في السوق. فقد قامت بعض الجهات بضخّ الدولارات في السوق للتأثير على سعر الصرف وفق مصالحهم وأهدافهم الشخصيّة. فظهرت حالة «عدم تناسق المعلومات»، فشقّت المجتمع إلى أشخاص يمتلكون المعلومات المؤثّرة على سوق الصرف، وأولئك الّذين يجهلونها… «رح بتنزل أم رح بتشبق؟». لكن للأسف، كيفما رقصت الليرة، فإنّ تجّار الموت يرفعون من أسعار منتوجاتهم وكأنّ الفقر بات شريكهم المفضّل!
ساهمت العوامل السابقة بجعل بيروت واحدة من أغلى المدن معيشةً في العالم، وقد احتلّت المركز 53 من أصل 209 مدينة مدرجة في تقرير «ميرسر» الّذي يُعرف أيضًا بإسم «مسح تكلفة المعيشة»، وتعتمد هذه الدراسة على مقارنة تكاليف أكثر من200 منتج وخدمة في كلّ مدينة: السكن، والنقل، والطعام، والملابس، والمستلزمات المنزليّة، والأنشطة الثقافيّة والترفيهيّة، إلخ… مع مراعاة تقلّبات أسعار العملات. وكان أكبر تغيير في آخر تقرير، تقدّم بيروت من المرتبة 45 لأغلى مدينة للوافدين الأجانب في العام 2020 لتتحوّل إلى ثالث أغلى مدينة لسنة 2021، وقد تفوّقت على مدن أوروبيّة عدة منها روما، وأمستردام، وميونيخ، وفرانكفورت. وترتبط هذه الزيادة في تكلفة المعيشة في بيروت خصوصًا بهبوط العملة المحلّيّة، وارتفاع أسعار المسكن، والمواصلات، والكهرباء، وغيرها…
من الظواهر السيكولوجيّة والمُحبطة أيضًا، توقّع المستهلك بحماس انخفاضًا نسبيًّا في أسعار السلع الاستهلاكيّة الضروريّة لبقائه على قيد الحياة والكرامة، متزامنة مع انخفاض سعر الدولار في السوق السوداء. ويا للأسف، أصبحت السلة الغذائيّة الصادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة بكلفة 2,5 مليون ليرة لترتفع لأكثر من ثلاثة أضعاف في سنة واحد.
لِمَ هذا الارتفاع؟ لأنّ بعضهم بعيدون كلّ البعد عن الشفقة، يتذرّعون بشرائهم البضائع وفق أسعار صرف مرتفعة، حتّى تلك المصنّعة الّتي تعرف تاريخ انتاجيّة قصير… فمن الّذي يردعهم وهم قد اكتسبوا المناعة ضدّ تصريحات فارغة من القائمين على حماية المستهلك، فهي تهدف فقط إلى تسجيل المواقف الإعلاميّة من دون أن تتّخذ الإجراءات الحازمة والحاسمة، فهل سمع أحدنا عن مخالفة حُرّرت من الوزارات المعنيّة…؟ أم كم متجرٍ أُقفل أو صودرت مواده؟ أم أنّ الوزارات نفسها لم تعد تملك الموارد البشريّة والماليّة لتقوم بهذه الدوريّات؟
بما أنّ الليرة اللبنانيّة قد فقدت أكثر من 60% من قيمتها في السوق الموازية، فإنّ أسعار المستهلك ترتفع على الدوام. وفي ظلّ انتظار الحكومة مساعدة دوليّة افتراضيّة شفقة على حال العاصمة الّتي ما زالت تضمّد جروحها بعد عام على لغز انفجارها البشريّ والمادّيّ والمعنويّ، نجد أنّه ليس لديها سوى أدوات مؤقّتة لمحاولة الحدّ من نزيف الليرة…
ترتفع الأسعار من أسبوع إلى الآخر، لا بين الساعة والأُخرى، وقد خصّص أصحاب المخازن بعض عمّالهم لتبديل لصاقات الأسعار ولا سيّما أنّ عدد الزبائن قد انحسر بمقدار كبير، وأصبحت زيارة السوبرماركت للضرورة القصوى، والأطفال ممنوعون من زيارتها تخفيفًا لمشاعر القهر عندهم. كذلك أصبحت المطاعم تقدّم لوائح الأطعمة بأوراق مطبوعة بالأبيض والأسود لسهولة التعديل وإعادة الطبع من دون اكتراث للتصميم وعامل الجذب، أو تلك الّتي تقدّم القوائم الافتراضيّة بحجّة كورونا وتحاشي اللمس، فهي تعي أنّ ذلك لمجرّد التفاف على الواقع، كي تعدّلها بسهولة في نسختها الإلكترونيّة.
كذلك، أصبح التسوّق محنة حقيقيّة، فربّات المنازل لَسن الأشدّ تذمّرًا، فهنّ صاحبات الامتيازات، إذ لم تنخفض «أجورهنّ» (الرمزيّة) إلى النصفّ أو الثلث، ومع ذلك فلم يعدن يقمن بتدبيرهن كما تعوّدن، لأنّ قوّة العائلة الشرائيّة في سقوطٍ حرّ، وقد يلجأن إلى تقنيّات التقشّف الّتي لا محال ستُعيد ذاكرتهنّ إلى أيّام أمّهاتهن، وتكريسهنّ الوقت للتموّن والتبضّع. هنّ أيضًا يتناقلن الخطوات الراقصة بين الرفوف لمقارنة الأسعار، والكميّات، والأحجام، ومعهن تتناقل المنتجات بين أياديهنّ بخطوات رشيقة، لتعود وتستقرّ معظمها على الرفوف لأنّها لم تعُد، على بساطتها، أولويّة لاحتياجات العائلة.
في مشهد رقصة الموت «الفالسيّة» الّذي تتماوج فيه شرائح المجتمع بين منتظر على محطّة وقود، أو باحثٍ عن الدواء في الصيدليّات، نجد الحكومة لا تحرّك ساكنًا لدرس هذه الظاهرة وتدارك نتائجها. وعلى سبيل المثال نتصفّح على موقع الإدارة المركزيّة للإحصاء أحدث مؤشّر لأسعار المستهلك (شباط 2021)، بناءً على السلّة القياسيّة للسلع والخدمات، ليُشير إلى ارتفاع بنسبة 11,4٪ مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي.
من الواضح أنّ ما تبقّى من حياء لدى الحكومة استثمرته في تغطية جسامة المصيبة، لا في تضميد الجروح والتعافي… فها هي الليرة اللبنانيّة ترقص عاريّة أمام ناظريها من دون خجلٍ أو وجلٍ، وكأنّها تحوّلت إلى بجعة سوداء راقصة، مثخنة بالجراح، لكنّها تأبى إلّا أن تقدّم إلى مراقبيها المشهد الأشدّ دراميّة. قد يكون الحلّ محلّيًّا داخليًّا، فلِمَ لا تلجأ الليرة إلى رقصة الدبكة اللبنانيّة الّتي تعرف إيقاعًا مرصوصًا متزامنًا مدروسًا تخطو فيه مع شركائها: تحديد أسعار المنتوجات، وتصحيح الرواتب، والاستقرار السياسيّ، والإصلاح الاقتصاديّ «كتف عَ كتف»، فتقود رأس السلسلة برقصة متناسقة، حينها «لبنان رح يرجع… والحقّ ما بيموت».