على رغم ان قرار رفع الدعم كليا عن أسعار المحروقات، كان متوقعا بين ليلة وضحاها، وعلى رغم المطالبات الكثيرة من خبراء واقتصاديين بضرورة رفعه كونه يفيد بالدرجة الاولى المهربين والمحتكرين، ولا يصل منه الى المواطن اللبناني غير الجزء القليل بعد الكثير من ذل الانتظار بالطوابير على محطات الوقود، أو دفع الثمن 5 أضعاف لدى تجار السوق السوداء، على رغم كل ذلك، فان قرار مصرف لبنان “المسائي” والمقتضب، شكَّل صدمة للبنانيين عموما وللمسؤولين خصوصا، إذ كان قد ترسخ في أذهان الجميع أن هذه الخطوة لن يقدم عليها مصرف لبنان إلا بعد الاتفاق مع السلطات السياسية، وبعد أن تكون البطاقة التمويلية العتيدة قد وُضعت موضع التنفيذ، تفادياً لارتدادات شعبية حادة لا تحمد عقباها، علماً أن بيان “المركزي” بهذا الشأن كان واضحا لجهة استمراره بتأمين الاعتمادات اللازمة بالدولار الأميركي لاستيراد المحروقات، وفق الآلية السابقة، ولكن باحتساب سعر الدولار بالليرة اللبنانية تبعاً لأسعار السوق الموازية.
بحسب البيان، سيواصل مصرف لبنان فتح الاعتمادات الدولارية للمستوردين في المصارف اللبنانية، مقابل سداد مستوردي المحروقات قيمتها لمصرف لبنان بالليرة اللبنانية، وفق سعر صرف السوق في حينه.
النأي عن تداعيات القرار!
اللافت في ردود الفعل على القرار، الشعبوية المفرطة التي مارستها شخصيات سياسية ونقابية وعمالية وتهديد بعضها بالحرب الاهلية وعظائم الامور، فيما يعلم معظمهم أن قرار وقف سياسة الدعم عموما آتٍ لامحالة لإنقاذ ما تبقى من أموال المودعين، ولقطع الطريق على نزيف التهريب الذي “يشفط” نحو نصف السلع المدعومة، ولا يستثنى من بين الشخصيات السياسية الا موقف جريء لرئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط أيد فيه القرار الذي “ما في مهرب منّو” وذلك لوقف التهريب إلى سوريا، والحل بالبطاقة التمويلية وتطوير النقل العام.
أمس كان يوماً حافلا بالاجتماعات للبحث في قرار رفع الدعم الذي وصفه رئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل بـ”المؤامرة والجريمة الموصوفة”، فيما كان لافتا تسابق الرئاستين الاولى والثالثة على استثمار الرفض الشعبي العام لقرار مصرف لبنان من دون طرح اي حلول بديلة ومفيدة، وكأنهما بذلك ينفضان أيديهما من التداعيات الشعبية للقرار. الاجتماع الأول في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس ميشال عون، وحضره وزير المال غازي وزني، ووزير الطاقة والمياه ريمون غجر، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حيث علم أن الاخير أبلغ المجتمعين أنه غير قادر على الاستمرار في الدعم، الا بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب يسمح باستخدام التوظيفات الالزامية بالعملات الاجنبية، فيما أكد رئيس الجمهورية أن المجلس الأعلى للدفاع لم يتخذ أي قرار يتعلق برفع الدعم الذي هو أصلا خارج اختصاصه، وطلب من حاكم مصرف لبنان في أي قرار يتخذه التنسيق مع السلطة الإجرائية التي ناط بها الدستور وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات، كما طلب منه التقيد بقانون البطاقة التمويلية وبالموافقات الاستثنائية عن مجلس الوزراء التي اجازت لمصرف لبنان شراء المحروقات ومشتقاتها على أن تسدد على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد.
الاجتماع الثاني عقد في السرايا للجنة الوزارية برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي قال إن “حاكم مصرف لبنان اتخذ هذا القرار منفرداً، والبلد لا يحتمل التداعيات الخطيرة لهكذا قرار”، عازيا مسؤولية تدهور الاوضاع الى “انتشار سلوك تجاري فاسد في العديد من الجوانب الحياتية الأساسية للبنانيين”.
بين السلبيات والايجابيات…
في حال الاصرار على قرار رفع الدعم، سيرتفع حتما سعر صفيحتي البنزين من 75 ألف ليرة الى نحو 336 ألف ليرة والمازوت من 57 ألف ليرة الى 280 ألف ليرة، وهو ما سينعكس على ارتفاع اسعار السلع والخدمات كافة بنسبة لا تقل عن 70 أو 80%، وفق ما يقول الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين لـ “النهار”، مذكّرا بأنه عندما ارتفع سعر البنزين من 45 ألف ليرة الى 70 ألف ليرة في نهاية حزيران الماضي ارتفعت الاسعار 15%، كما ارتفعت تعرفة النقل (السرفيس) من 4 آلاف الى 8 آلاف ليرة. ولكن نسب الارتفاع يمكن أن تكون أقل في حال أقدمت الشركات المستوردة على خفض ارباحها، لأنه كما هو معلوم فإن هذه الشركات كانت قد فرضت في حزيران الماضي ارباحا اضافية بقيمة 3 دولارات، واذا ما تم اعتماد الـ TVA على سعر صرف 1500 ليرة وليس 20 ألف ليرة، فإنه يمكن خفض الكلفة نحو 30 ألف ليرة يضاف اليها ربح الشركات اي 3 دولارات (60 ألف ليرة)، حينها يمكن خفض سعر صفيحة البنزين ما مجموعه 90 ألف ليرة بما يخفض سعرها الى نحو 246 ألف ليرة.
ويقترح شمس الدين اعتماد بطاقات بنزين مدعومة للسيارات الخاصة (صفيحة بنزين عدد 4 شهريا بالسعر المدعوم) والعمومية (صفيحة بنزين عدد 20 أو 25 بالسعر المدعوم)، وهذا يعني أنه بدل ان تدعم الدولة سنويا نحو 120 مليون صفيحة بنزين و230 مليون صفيحة مازوت، تكتفي بدعم 20 أو 25 مليون صفيحة بنزين و50 أو 60 مليون صفيحة مازوت بما يخفف الكلفة على الجميع، اضافة الى الحد من الهدر، من دون التأثير على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأكثرية اللبنانيين.
وليس خافيا على احد، ان الارتفاع الكبير لاسعار المحروقات في سوريا مقارنة مع لبنان، والذي أدى الى تنشيط عمليات تهريب البنزين الى سوريا وما رافقها من انتعاش للسوق السوداء في لبنان، هي من اهم الأسباب الأساسية لأزمة المحروقات المستفحلة. لذلك، وفي ظل العجز التام عن ضبط الحدود وغياب الاجراءات الصارمة بحق المهربين، فان اقرار رفع الدعم عن المحروقات سيبقى الحل الأسرع والاقل كلفة على الدولة اللبنانية، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي والنفطي الدكتور محمود ادلبي.
ليست المفاجأة في مضمون قرار مصرف لبنان برأي ادلبي، “انما عنصر المفاجأة يكمن في عدم تلازمه مع اقرار اي خطة مالية او اقتصادية او اجتماعية تخفف آثاره على المواطن اللبناني وأهمها اقرار البطاقة التمويلية، اضافة الى التوقيت المشبوه لاقراره، لما له من مفاعيل وتأثيرات سلبية ليس على اسعار المحروقات فحسب، وانما على الشعب اللبناني بكل حاجاته المعيشية اليومية، بما ينذر بعواقب وخيمة قد تؤدي الى انفجار اجتماعي شعبي كبير، ولا سيما في الظروف الاستثنائية الحالية، ومنها:
فقدان التوافق الوطني بين القوى السياسية، مما يؤدي الى امكان الانزلاق في لعبة استخدام الشارع، بحجة ما يسمى الانتفاضة الشعبية.
– عدم وجود حكومة اصيلة فاعلة وقادرة على أن تتحمل مسؤولياتها، مما يؤدي الى التراخي في اتخاذ الاجراءات والتدابير اللازمة، وعدم اتخاذ اي خطوات اصلاحية.
– تعثّر تشكيل حكومة انقاذية للمرة الثالثة خلال سنة واحدة، مما يزيد من حدة الصدامات الشعبية التابعة للقوى السياسية بهدف اجراء المزيد من الضغوط السياسية وتصفية الحسابات.