هذا المشهد، عينة بسيطة من يوميات اللبنانيين الذين يهدرون أوقاتهم بحثا عن أدنى مقومات العيش، وغالبا لا يجدونها، فيعودون إلى عتمة منازلهم خائبين.

لكن إعلان مصرف لبنان المركزي رفع الدعم عن المحروقات -وما تبعه من صراع سياسي بين السلطتين الرئاسية والتنفيذية والقوى الدائرة حولهما- شكّل منعطفا خطيرا للأزمة؛ وقد تجلت بوادره بالشارع.

 

من جهة، يصر حاكم المركزي رياض سلامة على رفع الدعم عن استيراد المحروقات، ومن جهة أخرى، لم تعلن الحكومة -ممثلة بوازرة الطاقة- تسعيرة جديدة لها خوفا من تداعيات القرار الذي يعني رفع أسعار المحروقات بنحو 5 أضعاف.

 

واكتفت المديرية العامة للنفط مع المركزي بالتوافق على تسديد ثمن مخزون المحروقات الموجود لدى الشركات على سعر صرف 3 آلاف و900 مقابل الدولار، على أن تكون الأولوية تزويد المستشفيات ومصانع الأدوية والأمصال والأفران بالمازوت. وهذا المخزون محدود يكفي لأيام فقط، في حين تجاوز الدولار عتبة الـ20 ألف ليرة بالسوق السوداء، وهو من سيحدد لاحقا أسعار المحروقات بعد قرار رفع الدعم.

 

ميدانيا، اتسعت رقعة الإشكالات عند محطات الوقود التي تزحف نحوها أرتال السيارات والدراجات النارية وحاملي الغالونات، ما استدعى نزول الجيش والقوى الأمنية على الأرض ضبطا للكميات المخزنة وتعزيزا للأمن.

وعليه، يرى مراقبون أن لبنان دخل مرحلة ما بعد رفع الدعم، ولن تكون كسابقتها.

المازوت يشل القطاعات

يُجمع أصحاب القطاعات الحيوية على صعوبة المرحلة، ويترقبون تداعيات رفع الدعم عن المحروقات بخوف وحذر شديدين، وفق ما أفادوا به للجزيرة نت في حديثها معهم.

 

وأغلقت معظم الأفران أبوابها، بسبب شح مادة المازوت الضرورية لتشغيل المطاحن، بينما عمدت أخرى على تقنين مبيعاتها.

 

ويصف نقيب أصحاب الأفران علي إبراهيم وضعهم بالمأساوي، مشيرا إلى أن أقل من 50% من الأفران -من بين 240- تعمل.

 

وقال إن الأفران تحتاج شهريا لنحو 5 ملايين ليتر من المازوت لتزويد مولداتها الخاصة بسبب انقطاع الكهرباء، وتعاني صعوبة شديدة بتوفيرها.

 

وهذا الواقع -وفق إبراهيم- خلق السوق السوداء للخبز، إذ عمدت بعض المتاجر إلى بيعه بأكثر من 3 أضعاف السعر الرسمي.

 

والحال عينه ينسحب على القطاع الطبي، لأن رفع الدعم عن المحروقات يعني رفعا للكلفة الاستشفائية بأضعاف، بحسب نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، وهي كلفة سيتكبدها المواطن حكما.

وقال هارون إن المستشفيات الخاصة التي تشغل نحو 85% من الأَسرة الاستشفائية بلبنان؛ تحتاج شهريا ما لا يقل عن 11 مليون ليتر من المازوت (أي معدل 350 ألف ليتر يوميا)، لتزويد مولداتها على مدار 20 ساعة من انقطاع الكهرباء.

 

ولفت أن مخزون المستشفيات من المازوت يكفي لأيام فقط، بينما يستوجب وجود مخزون لشهر كحد أدنى، نظرا لما تتطلبه العمليات الجراحية ومرضى التنفس الاصطناعي ومرضى كورونا.

 

وبالآونة الأخيرة، صارت المستشفيات تستقبل الحالات الطارئة فقط، لأن شح المازوت يترافق مع شح بالأدوية والمستلزمات الطبية.

 

وفيما يعاني اللبنانيون شحا كبيرا بالأدوية وغلاء أسعارها -خصوصا تلك المستوردة- تشكو كارول أبي كرم -نقيبة مصانع الأدوية والأمصال- من أن 12 مصنعا بلبنان بحاجة لنحو مليون ليتر من المازوت شهريا، “مما يعني أن رفع الدعم عن المحروقات سيضاعف الفاتورة الدوائية، خصوصا أن الدولة لا توفر دعما كاملا للأدوية المصنعة محليا، ويقتصر (الدعم) فقط على المواد الأولية”.

المزارعون أيضا

يصف إبراهيم ترشيشي -رئيس “تجمع مزارعي وفلاحي البقاع”- المازوت بـ”أكسجين” المزارعين، ومن دونه لا يمكنهم العمل.

وقال ترشيشي -للجزيرة نت- إن المزارعين من أكثر الفئات تضررا، وحتى قبل رفع الدعم عن المحروقات، يحصلون عليها بصعوبة، نظرا لوجودهم بأراضي الجردية، فيضطرون لشراء المازوت من المحتكرين بضعف قيمته.

 

ولفت أن كلفة المحروقات صارت تشكل نحو 35% من قيمة الناتج المحلي للمزارعين، وتعد باهظة جدا، “مما يعني أن رفع الدعم عنها سيرفع أسعار المحاصيل الزراعية على أنواعها”. وأشار إلى أن المزارعين يتكبدون خسائر كبيرة بتلف جزء كبير من محاصيلهم نتيجة انقطاع الكهرباء وشح المازوت.

 

هل يدفع اللبنانيون ثمن إخفاق السلطة بإدارة الأزمة؟

يعتبر ناصر ياسين -وهو أكاديمي ومسؤول مرصد الأزمة بالجامعة الأميركية في بيروت- أن قرارا بحجم رفع الدعم لا يؤخذ بهذه العشوائية، ليعكس فجوة انعدام التنسيق بين السلطة السياسة وحاكمية مصرف لبنان.

 

وحتى لو كان رفع الدعم قرارا حتميا للحفاظ على ما بقي من احتياطي إلزامي لدى المركزي (نحو 14 مليار دولار)، لكنه اتخذ بطريقة مؤذية، ولم يحسب مهلة زمنية كتمهيد تدريجي لتداعياته، وفق ياسين.

 

ويحمّل الأكاديمي حكومة تصريف الأعمال مسؤولية كبيرة، لجهة عدم الالتزام بتعهداتها وإدخال مشروع البطاقة التمويلية حيز التنفيذ، بعد أن علقت آمال نحو 70% من الأسر الأشد فقرا عليها.

 

وقال ياسين إن سياسة الدعم أثبتت إخفاقها نظرا لاعتبارات عدة:

أولا، لم يكن دعما عادلا، واستفاد منه الأثرياء بدل الفقراء عبر توفير حاجاتهم بأقل ثمن.

 

ثانيا، ضاعف ثراء المحتكرين والمهربين والناشطين بالسوق السوداء.

 

ثالثا، لم يترافق الدعم مع خطة لرفعه تدريجيا من جهة وتوفير شبكة الأمان الاجتماعية من جهة أخرى.

 

ومن التداعيات الخطيرة لرفع الدعم عشوائيا -بحسب ياسين- خلق نوع من الشبكات غير الرسمية تسيطر على الأحياء والمواطنين وشتى القطاعات، وتكرس مفهوم “الزبائنية” وفق منطق أيام الحرب الأهلية، حيث يصبح توفير حاجات المواطنين بواسطة هذه الشبكات، فتعزز نفوذها مستفيدة من غياب الدولة.

 

وذكر ياسين أن لبنان يعاني تضخما مفرطا بارتفاع أسعار معظم المواد الغذائية نحو 700%، ومرشحة للتصاعد إلى نحو 50% إضافية، مع رفع الدعم عن المحروقات. وعليه، “ستضطر الأسر لتقليص استهلاكها الغذائي كما ونوعا”.

 

وقال ياسين -للجزيرة نت- إن لبنان أضحى بقعا جغرافية متوترة أمنيا، وأي انفراج اقتصادي ومعيشي مقرون باستقرار سياسي ووضع خطة لإدارة الأزمة قبل الانتقال إلى خطة التعافي والتفاوض مع الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي.

مسار طويل

من جهته، يعتبر بيار الخوري -الأكاديمي والخبير بالاقتصاد السياسي- أن رفع الدعم مجرد محطة بمسار انكسار طويل تفجّر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين انكشف الخلل بميزان الواردات والموجودات بالعملة الصعبة، وهو ما دفع لبنان إلى مرحلة تحلل الدولة والتخلي عن كل التزاماتها.

ويرى الخوري أن رفع الدعم سبقه انهيار دراماتيكي لليرة فتأثرت سلبا الدورة الاقتصادية، وانكشف صراع المداخيل والثروات، وصارا يشكلان معا تهديدا للاقتصاد.

 

فمن يرفض رفع الدعم ينطلق دفاعا عن الطبقات الفقيرة والمسحوقة غير القادرة على استيعاب صدمات ارتفاعات الأسعار.

 

ومن يدافعون عن منطق الثروات -وبطليعتهم حاكمية المركزي- يتذرعون بانهيار ما بقي في الدولة من احتياطي بالدولار، وفق الخوري.

 

وقال الأكاديمي -للجزيرة نت- إن لبنان يقف أمام خيار مأزقي؛ وهو أنه لا يمكن الاستمرار بالدعم ولا التوقف عنه.

 

ولأن لبنان خسر مفهوم الدولة الطبيعية -بحسب الخوري- فقد أصبح رفع الدعم وتحرير الاقتصاد مأزقا، بعد أن كان منارة الاقتصاد الحر

وبرأي الخوري، فإن المال صار أقوى من الحكومات، وبالتالي رهان لبنان على تكرار تجربة الحرب الأهلية -على قاعدة أن اشتداد الأزمة يتبعه تدفق أموال نقدية من الخارج- غير مجدٍ.

 

لأن تدفق الأموال الخارجية -وفق الخوري- “لم يعد مجانيا، ويتطلب أسباب جوهرية لتواجده، كبيئة الاستثمار والثقة وضمان الأرباح”.

 

ويرى الخبير أن تشكيل حكومة قد يشكل مدخلا؛ لكنه لا يضمن حلا، طالما يغيب عن أركان السلطة مفهوم وضع إستراتيجية اقتصادية سياسية متشابكة تخدم مصلحة اللبنانيين لا مصالحهم.