يسعى صنّاع السياسات إلى السيطرة على أزمة توفير الإسكان ميسور التكلفة، إذ يخطط مسؤولون في بعض من أكبر المدن حول العالم لاتباع أسلوب جديد، فرض الضرائب على منازل الأثرياء الشاغرة.
تخطط مدينة لوس أنجلوس الأمريكية لإدراج ضريبة المنازل الشاغرة، ليجري التصويت عليها ضمن بطاقات الاقتراع لعام 2022، وذلك لمواجهة أزمة التشرد المتزايدة في المدينة. وينظر مسؤولو هونغ كونغ في إمكانية فرض ضرائب على مطوري العقارات لردعهم عن تكديس الوحدات الجديدة، في الوقت الذي لا تزال فيه أيرلندا مستمرة في استكشاف خياراتها في هذا الموضوع، فيما وصل الأمر في برشلونة إلى حد التهديد بالاستيلاء على الشقق الشاغرة، وتعويض ملاكها بنصف قيمتها السوقية فقط، ثم تأجير الوحدات بأسعار معقولة. أما باريس فرفعت في عام 2017 الضرائب على امتلاك المنزل الثاني، بمقدار ثلاث مرات.
أزمة عقارية
تتفاوت الأسباب الكامنة خلف هذه القرارات، بين إثناء الأفراد عن استثمار أموالهم في المنازل بدلاً من العيش فيها، ووقف الإخلال بمقاييس العرض والطلب الناتجة عن إبقاء مجموعة من العقارات بعيدة عن السوق.
من جهتهم، يقول المشرعون إن العقارات الشاغرة تستنفد المخزون في السوق، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى المستأجرين من ذوي الدخل المنخفض إلى المتوسط، ومشتري المنازل، في سوق عالمية هي متقلصة ومكلفة بالأصل. وبالتالي فإن الأمل يعقد على أن تموّل هذه الضرائب جهود الإسكان الميسور التكلفة، أو تدفع ملاك العقارات والأثرياء إلى طرح ممتلكاتهم في السوق.
مع ذلك، لا يبدو الجميع مقتنعاً بهذه الإجراءات، إذ يقول بريندان كوتس، مدير برنامج السياسات الاقتصادية في “معهد غراتان للأبحاث” في ملبورن: “ضرائب الممتلكات الشاغرة تندرج ضمن الأمور التي تبدو جيدة، لكنها لن تحدث فرقاً كبيراً عند تطبيقها”. ويضيف: “هي لا تعدو كونها إلهاء عن اللعبة الرئيسية”.
يقول خبراء الاقتصاد إن هناك عوامل لها تأثير أكبر في أزمة الإسكان، مثل معدلات الفائدة المنخفضة بمستويات قياسية، والنمو السكاني، واختلال التوازن بين العرض والطلب، والافتقار إلى بناء مساكن بأسعار معقولة. كذلك يعتقد النقاد أن الضرائب تشكل مواقف سياسية أكثر من كونها مصدراً حقيقياً للدخل، وهي لا ترقى إلى أن تكون نهجاً يحل الأزمة العالمية للإسكان الميسور. وعموماً، يرجع جزء من المشكلة إلى التصميم وجزء آخر إلى التنفيذ. وفي الوقت ذاته، يرى آخرون أن هذا المفهوم خاطئ تماماً.
إذاً، هل يمكن لهذه الضرائب أن تنجح؟
قد يمكن إيجاد بعض الإجابات، على الأقل في اثنتين من المدن الأقل تكلفة في العالم، فهما قد فرضتا مؤخراً رسوماً على “منازل الأشباح”. ففي فانكوفر الكندية، التي فُرضت بها الضريبة في عام 2017، تجاوزت الإيرادات التوقعات، لكن عدد المنازل المتاحة للإيجارات لم يتغير. أما في ملبورن بأستراليا، حيث فُرضت الضريبة في عام 2018، فقد كانت المحصلة ضئيلة. كما لا يوجد دليل مقنع في أي من المدينتين على أن أسعار المنازل أصبحت في المتناول بشكل أكبر.
أدت سوق الإيجارات ذات المعروض شبه الصفري في مدينة فانكوفر إلى فرض ضريبة على المنازل الشاغرة، بنسبة 1% من القيمة المقدرة للعقار. وفي عام 2019 حوّل ملاك العقارات في المدينة أكثر من 5 آلاف وحدة سكنية قائمة إلى الإيجارات طويلة الأمد. وهي خطوة رجعتها وكالة الإسكان الفيدرالية الكندية جزئياً إلى الضريبة الجديدة. هذه الضريبة نتجت عنها إيرادات تزيد قيمتها على 84 مليون دولار كندي (67 مليون دولار أمريكي) في الفترة من عام 2017 إلى عام 2019، متجاوزة بذلك التقديرات الأولية لها، البالغة مليوني دولار كندي سنوياً، إذ تُخصَّص هذه الأموال لتطوير مساكن بتكلفة معقولة، ولدعم المستأجرين.
سياسات جيدة بنتائج محدودة
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام مشجعة، فإن فانكوفر كانت تتوقع في الأساس وجود أكثر من 10 آلاف منزل شاغر أو “غير مستغل”، لكن المدينة وجدت في عام 2017 ألفين و538 وحدة فقط ينطبق عليها هذا الوصف. وقد انخفض هذا الرقم بنسبة 25%، أو بمقدار 645 وحدة، على مدار العامين التاليين، وهو ما يمثل خطأ حسابياً في سوق إسكان المدينة الذي يضم نحو 200 ألف عقار.
ومما لا شك فيه أن هذه الضريبة لقيت رداً جيداً من الناحية السياسية بين سكان المدينة، لكن رئيس البلدية كينيدي ستيوارت أشار إلى أنه لا يزال هناك مجال لتحسينها.
عن ذلك قال ستيوارت: “هذه الأداة الرائدة ساعدت في نقل آلاف المنازل إلى سوق الإيجار، للمساعدة في إسكان جيراننا، لكن لا يزال هناك عدد كبير جداً من المنازل الشاغرة”. جاء هذا التصريح لرئيس البلدية خلال العام الماضي، في أثناء الإعلان عن زيادة الضريبة بمقدار ثلاثة أضعاف.
كذلك لم يحدث أي تحسن ملحوظ في توافر الوحدات السكنية المخصصة للإيجار، فقد بلغ معدل الوحدات الشاغرة في منطقة فانكوفر الحضرية الأوسع نطاقاً 0.8% في عام 2020، بارتفاع طفيف عن نسبة 0.3% المسجلة في عام 2019، حسب وكالة الإسكان الفيدرالية الكندية. وكانت المدينة تأمل في أن تسهم الضريبة في رفع معدلات الوحدات الشاغرة إلى 5%، لكن لم تُضَف معروضات جديدة إلى السوق بشكل سريع.
في غضون ذلك، استمرت الإيجارات في الارتفاع، إذ ارتفع متوسط إيجار الوحدة السكنية في المنطقة بنسبة 1.1%، ليصل إلى ألف و914 دولاراً كندياً في العام الماضي خلال انتشار “كوفيد-19”. وقد استمر هذا الارتفاع رغم تراجع الطلب على المساكن في المدينة، بسبب مغادرة الطلاب، وتوقف الهجرة إلى المنطقة.
مساكن باهظة
لا تقدم فانكوفر تحليلاً تفصيلياً لقيم هذه العقارات الشاغرة، لكن البيانات التي جرى تجميعها تشير إلى أنها عقارات باهظة الثمن. ففي عام 2019، وهو آخر عام توفرت فيه الأرقام، بلغ متوسط القيمة المقدرة لمنزل شاغر لأسرة واحدة ما قيمته 3.5 مليون دولار كندي، مقارنة بـ2.3 مليون دولار كندي للمنازل المماثلة في أنحاء المدينة. وعادةً لا تكون إيجارات هذه المنازل ميسورة التكلفة.
يقول توماس دافيدوف، أستاذ التمويل العقاري في جامعة كولومبيا البريطانية: “لا تعتقد بأنك ستحل مشكلة القدرة على تحمّل تكاليف الإسكان لدى الطبقة العاملة، بفرض مثل هذه الضرائب”. وأضاف: “شراء الأجانب، وامتلاك المنازل الشاغرة، يتركزان بشكل خاص في العقارات الباهظة”.
وكان تحليل للبيانات المستمدة من الضرائب قد أجراه الإحصائي ينس فون بيرغمان، الذي يدير شركة لتحليل البيانات في فانكوفر، مع ناثانيل لاستر، الأستاذ المساعد في جامعة كولومبيا البريطانية، أظهر أن وحدات السكن التي يتركها ملاكها المقيمون في الخارج شاغرة هي ليست كثيرة جداً في كندا كما افترض الناس. وتشير الدراسة إلى أن كلاً من ميامي ونيويورك وهيوستن وفينيكس وشيكاغو وسان فرانسيسكو لديها وحدات سكنية شاغرة أكثر بكثير من فانكوفر.
صعود الأسعار
في الواقع، إن كثيراً من المنازل الشاغرة يكون مؤهلاً للحصول على إعفاءات ضريبية لأسباب كثيرة، مثل وجود المالك في الرعاية الطبية، أو بسبب السفر، أو بسبب خضوعها لأعمال التشييد أو التجديد الكبيرة.
عن ذلك كتب فون بيرغمان ولاستر: “لدينا تساؤلات حول ما إذا كانت هناك مبالغة بشأن الضرائب على المنازل الشاغرة، واعتبارها حلاً لأزمات الإسكان الأوسع نطاقاً”. وأضافا: “ضرائب المنازل الشاغرة هي ضرائب جيدة، ويمكنك اعتبارها زيادة على ضرائب الممتلكات”. وحذر مؤلفا الدراسة قائلين: “يجب التأكد فقط من أن التوقعات المعقودة عليها وُضعت وفقاً لذلك”.
في ملبورن، تجد الأُسَر من الطبقة المتوسطة نفسها غير قادرة على مواكبة ارتفاع أسعار العقارات، وذلك بعد فقاعة عقارية في المدينة دامت لعقدين من الزمان. أما في جميع أنحاء أستراليا فقد ارتفع عدد الأسر منخفضة الدخل التي تعاني من ضغوط الإيجارات بأكثر من الضعف في الفترة ذاتها.
وكغيرها من الضرائب الأخرى المقترحة في جميع أنحاء العالم، تهدف ضريبة ملبورن إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية المخصصة للبيع والإيجار. وبالإضافة إلى ذلك، يواجه أصحاب المنازل الشاغرة من الأجانب ضريبة وطنية أيضاً.
صعوبات التنفيذ
لكن القليل من هؤلاء قام بالدفع. ففي العام السابق لتفشي الوباء، فرضت ملبورن ضرائب على ما يصل إلى 587 عقاراً، وجمعت إيرادات تصل إلى 6.2 مليون دولار أسترالي (4.5 مليون دولار)، إلا أن التوقعات الأصلية لهذه الضرائب بلغت 80 مليون دولار أسترالي لفترة أربعة أعوام.
تُعَدّ هذه خيبة أمل كبيرة بالنسبة إلى مؤيدي هذه الضرائب، ومنهم كارل فيتزجيرالد، مدير الأبحاث في “بروسبر أستراليا”، وهي منظمة غير ربحية تركز على الإصلاح الضريبي. ففي عام 2019 قدّر فيتزجيرالد وجود 24 ألفاً و42 عقاراً في ملبورن، استهلكت “صفر” لتر من المياه يومياً، ما يعني أن هذه العقارات خلت من أي ساكنين.
وقبل تطبيق الضريبة أشار المهنيون في قطاع العقارات إلى أنه كان من السهل لأصحاب هذه العقارات تعيين شخص لإضاءة الأنوار في الوحدات لإظهار أن هناك من يقطنها.
يقول فيتزجيرالد: “إذا كان لدى فانكوفر ضريبة المساكن الشاغرة الأفضل أداءً، فإن ملبورن هي الأسوأ”، مضيفاً: “لا يوجد تنفيذ”.
الآن، يعتقد فيتزجيرالد أن الضريبة المفروضة على الأراضي، إذ تُفرض ضرائب سنوية على الأراضي والممتلكات، بغضّ النظر عن استخدامها، قد تكون طريقة أبسط لتثبيط شراء العقارات القائم على المضاربة، وتشجيع المطورين والمُلاك، على إتاحة مزيد من العقارات للاستخدام.
لتطبيق الضرائب، تعتمد ولاية فيكتوريا في المقام الأول على الإبلاغ الذاتي من قِبل مُلاك العقارات، أما أولئك الذين يتجاهلون القانون عمداً فهم يواجهون معدلات ضريبية تصل إلى 90%. لكن فيتزجيرالد يقول إنه لم يجد دليلاً يشير إلى إصدار غرامة واحدة بسبب عدم الامتثال للقانون.
وعلى النقيض من ذلك، فإن فانكوفر، التي تفرض غرامات تصل إلى 10 آلاف دولار كندي يومياً على التصريحات الزائفة، أجرت 9 آلاف و310 عمليات تدقيق في الفترة من نوفمبر 2019 إلى نوفمبر 2020، ما أدى إلى جمع إيرادات تقدر بـنحو 18.2 مليون دولار كندي، حسب بيانات المدينة.
تأثير الوباء
في ملبورن، ظلت مستويات أسعار الإيجار وعدد الوحدات المطروحة في السوق ثابتة إلى حد كبير حتى تفشى الوباء. فقد أظهرت بيانات شركة “إس كيو إم ريسيرش” أن معدل المساكن الشاغرة بلغ 2.5% في ديسمبر 2019، مقارنة بـ2.1% في ديسمبر 2017. وبلغ متوسط الإيجارات الأسبوعية للشقق السكنية ما قيمته 409 دولارات أسترالية، وهذا الرقم لم يتغير كثيراً عن رقم الـ396 دولاراً أسترالياً المسجل قبل عامين.
ومثل عديد من المدن الأخرى، انقلبت الأمور رأساً على عقب بسبب الوباء، إذ ارتفعت معدلات الوحدات الشاغرة وانخفضت الإيجارات. كما أدت الحدود الدولية المغلقة إلى انخفاض الطلب من مجموعات رئيسية، ومنهم الطلاب الأجانب، فيما تسبب الاعتماد الواسع النطاق على سياسات العمل من المنزل في انتقال المستأجرين بعيداً، بحثاً عن قيمة أفضل لأموالهم.
بالنسبة إلى الضريبة الوطنية، خضع 340 عقاراً في جميع أنحاء أستراليا للضريبة في العام المالي 2019-2020، ما أسهم في جني إيرادات إجمالية بقيمة 3.7 مليون دولار أسترالي. وهذا يعادل في المتوسط 10 آلاف و882 دولاراً أسترالياً عن كل عقار. ويشير نظام نطاقات الأسعار إلى أن الوحدات النموذجية التي تخضع للضريبة تقدر بقيم متوسطية تبلغ مليوني دولار أسترالي. لذلك، حتى لو أُدرجت هذه المنازل في السوق فإن المستأجرين المتعثرين لن يتمكنوا على الأرجح من تحمل تكاليفها.
في الوقت الراهن، علقت ملبورن ضرائبها طوال فترة تفشى الوباء. وعلى الصعيد المحلي، قال مكتب الضرائب الأسترالي إن الإعفاء الضريبي متاح لأولئك الذين مُنعوا من شغل ممتلكاتهم لمدة 183 يوماً، وهي المدة المطلوبة لتجنب ضريبة المساكن الشاغرة.
المنظور الأخلاقي
في لوس أنجلوس، حيث تُطرح الضريبة على الوحدات السكنية الشاغرة لتصويت السكان خلال العام المقبل، يقول جو دونلين، مدير الأبحاث والسياسات لدى منظمة “تحركات استراتيجية لاقتصاد عادل” في لوس أنجلوس: “لدينا وحدات شاغرة تفوق عدد أفراد المجتمع الذين لا يملكون مساكن”.
وقد نشرت المنظمة غير الربحية تقريراً لها خلال العام الماضي، قالت فيه إن على المدينة تطبيق ضريبة المنازل الشاغرة، مستشهدة بفانكوفر باعتبارها مكاناً يمكن الاقتداء به. وجادلت بأنه في الوقت الذي لن تكون فيه الضريبة ذاتها كافية لتغيير الوضع، إذ إن معدلات الوحدات الشاغرة أعلى بالنسبة إلى الممتلكات الباهظة، فإن مثل هذا التشريع سيوصل رسالة مهمة.
يقول دونلين: “هناك فرصة كبيرة للتأثير في سلوك المضاربين الذين يبقون الوحدات شاغرة، وتوليد إيرادات لتطوير أنواع الإسكان ميسور التكلفة، والضروري لإيواء جميع أفراد مجتمعنا”.
بالنسبة إلى بعض المدن، لا يتعلق الأمر فقط بإعادة توزيع المساكن أو عائدات الضرائب، بل بالمنظور السياسي والأخلاقي بامتلاك البعض لمساكن أكثر من الحاجة، فيما يكافح البعض الآخر للاحتفاظ بمسكن واحد يُؤويهم.
يقول جيمس ماكنتاير، الاقتصادي لدى “بلومبرغ إنتليجنس” ومقره سيدني: “هذه الضرائب تتعلق أكثر بنزاهة السوق العقارية والقضايا السياسية المحلية، مثل الإسكان ميسور التكاليف والمتوفر بشكل أكثر من كونها قاعدة فعالة للإيرادات”.
وأضاف: “ما يؤثر في الإسكان ميسور التكلفة حقاً هو أشياء مثل معدلات الفائدة، والقيود على التخطيط، والإطار الضريبي العام”.
وأخيراً، فقد رفعت فانكوفر خلال العام الحالي الضريبة على المساكن الشاغرة إلى 3% من القيمة المقدرة للعقارات. وخلال الإعلان عن رفع الضريبة قال عمدة مدينة فانكوفر الكندية، كينيدي ستيوارت: “من خلال زيادة الضريبة بمقدار ثلاث مرات من 1% إلى 3% منذ تطبيقها، فإننا نبعث برسالة أقوى مفادها أن المنازل للناس، لا للمضاربة”.
لبنان 24